رؤي ومقالات

السفير أحمد مجاهد يكتب :إسرائيل، من البجع الأسود إلى تغريدة البجعة

سلام الردع وإعادة تشكيل النظام الإقليمى، أم انكشاف الردع والسردية؟

«البجعة السوداء» مفهوم صاغه المفكر الأمريكى-اللبنانى نسيم طالب للدلالة على الأحداث النادرة والمفاجئة الضخمة التي لا يمكن التنبؤ بها، لكنها تُحدث تحوّلات عميقة ونوعية فى بنية الأنظمة والأقاليم السياسية والاجتماعية. أما «تغريدة البجعة» فهي استعارة معروفة تصف اللحظة الأخيرة من التألق قبل الانهيار التدريجى او السريع، وتُستخدم للإشارة إلى لحظة يأس أو انفعال أخير تصدر عن شخص او مؤسسة أو امبراطورية أو أى كيان يحس يستشعر قرب نهايته.
يمكن استخدام هاتين الصورتين لتحليل السلوك الإسرائيلى وسياقه منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. فبينما تسعى إسرائيل لصياغة سلام ردع جديد من خلال القوة الغاشمة العارية المتبجحة وإعادة رسم المشهد وتشكيل النظام الإقليمى لصالحها، تتبدى في المقابل مظاهر انكشاف حقيقى لإسرائيل على مستوى الردع، والشرعية، والسردية السياسية والأخلاقية، سواء داخليًا أو على الساحة الدولية.
سردية “سلام الردع” ومكاسب إسرائيل الفعلية
من منظور عسكري واستراتيجي صرف، حققت إسرائيل ما يراه البعض من المؤمنين بالنظرية الواقعية ومنطق القوة نجاحًا مطلقا في فرض هذا المنطق. فقد دمرت بشكل ممنهج البنية التحتية لقطاع غزة، وأعادت تموضع قواتها داخله، وفرضت كلمتها-بالحرب ضد المقاومة والقتل والاغتيال والترويع والتجويع ضد عشرات الآلاف من المدنيين العزل- كما حاربت على أكثر من جبهة محور المقاومة وضربته ضربات مؤثرة ومهينة فى قلبه فى إيران وفى جناحه الرئيسى حزب الله، كما استهدفت دمشق تحت حكم الاسد ثم حكم الشرع الانتقالى، وعمقت التعاون العسكرى والأمنى مع القوة العظمى الأمريكية والقوى الغربية الكبرى.
على الصعيد الدبلوماسى، نجحت إسرائيل فى تحييد مجلس الأمن، تحت الغطاء الأمريكى الرسمي، في ظل صمت او انعدام حيلة عربي رسمي وخطاب دولى متردد. وداخليًا، صعّدت من سياساتها في الضفة الغربية، فسارعت بتهويد الحرم الإبراهيمي، وكثفت التوسّع الاستيطاني، محاولة إعادة تشكيل الخريطة الجغرافية والسياسية لما بعد الحرب.
جاءت كل هذه التحركات في إطار تصور إسرائيلي مفاده أن الردع لم يكن بالإمكان استعادته بعد ٧ أكتوبر إلا من خلال إعادة تعريف وتشكيل المشهد الإقليمي بالقوة، وفرض «سلام الردع» على الشرق الأوسط بالشروط الإسرائيلية الكاملة دون تفاوض مع أى لاعب إقليمى آخر.
بجعات سوداء فى كل مكان
لكن ما يراه العالم من صلابة وعنف فائق وتبجح غير مسبوق من جانب إسرائيل، يخفي في طياته تصدعًا داخليًا وانكشافًا بنيويًا. فالعنف الإسرائيلي المفرط الذى دمر غزة فى إطار انعدام كامل لتوازن القوى لم ينجح في إخضاعها ولا كسر إرادة مقاومتها لمدة تقترب من العامين، بل أتاح فرصة تاريخية غير مسبوقة لظهور بجعة سوداء مثيرة تتمثل فى إعادة إحياء القضية الفلسطينية بعد موات وتقديمها إلى قلب وعقل الرأى العام العالمى -لا سيما فى الدول الغربية وبالذات فى الاوساط الشابة- باعتبارها حربا استعمارية ومعركة أخلاقية وإنسانية تتجاوز حدود الجغرافيا والقومية والأديان.
في سوريا، ظهرت بجعة سوداء كبيرة اخرى، حيث مثّل سقوط نظام الأسد ووصول سلطة انتقالية إلى الحكم فى سوريا بقيادة أحمد الشرع، تحت راية ثورية وإسلامية (أو إرهابية سابقة او راهنة كما يرى البعض)، صدمة استراتيجية لإسرائيل (حتى لو كانت قد اضطرت إلى غض الطرف عن هذا التحول تحت ضغط أمريكى، كما ترى بعض االتقارير). فهى قد خسرت جارًا مثاليًا، مستقرًا ومهادنًا وإن كان عدائيًا مقاوما على الصعيد “الحنجورى”- لصالح جبهة جنوبية مفتوحة على الاحتمالات والتهديدات، حتى وإن كانت شبه منزوعة السلاح وقليلة الخيارات.
كما أطلت بجعة سوداء جديدة برأسها من جانب إيران، فالمعادلة الجديدة التى كشفت عنها الحرب الإسراىيلية ضد إيران توضح أن الردع لم يعد من طرف واحد: فقد تلقت تل أبيب ضربات مباشرة ومؤثرة على أراضيها وفى قلبها العسكرى والعلمى والاقتصادى، وهو ما أثبت هشاشة أمنية لم تعترف بها المؤسسة السياسية والعسكرية من قبل (علما بأن الكثير من الخسائر الإسرائيلية جرى التعتيم عليه).
وفى حين تتحدث إسرائيل عن إعادة تشكيل الإقليم، فإن الواقع يشير إلى أنها لا تُحكم السيطرة على جبهاتها التقليدية، وتُستنزف هيمنتها المنشودة استراتيجيًا في أكثر من اتجاه وعلى اكثر من مستوى في وقت واحد.
البجعة السوداء الكبيرة تحلّق فوق واشنطن
لكن البجعة السوداء الأخطر لم تظهر في غزة أو دمشق أو طهران، بل في قلب واشنطن. حيث أظهرت استطلاعات الرأي الأميركية الأخيرة تحولًا جذريًا في المزاج العام: فقط ٢٣٪ من الأميركيين يرون أن سلوك إسرائيل مبرر بالكامل، و٤٣٪ من شباب الحزب الديمقراطي يطالبون بوقف الدعم العسكرى لإسرائيل نهائيًا.
كما تحولت الجامعات الأميركية إلى منصات احتجاج، ترفع أعلام فلسطين وتطالب بمقاطعة الشركات والمؤسسات المرتبطة بالاحتلال. وبالتلى لم تعد القضية الفلسطينية لم تعد ملفًا خارجيًا فى الولايات المتحدة، بل أصبحت جزءًا من خطاب العدالة الاجتماعية الذي يشمل السود، واللاجئين، والمهمشين، والمضطهدين.
هذا التحول يمس جوهر السردية الإسرائيلية فى الولايات المتحدة: من دولة ديمقراطية محاصرة إلى قوة استعمارية مكشوفة تُحرج حلفاءها وتُضعف حججهم أمام شعوبهم.
شبكة إبستين: ترامب، والموساد
وسط هذه التحولات، تعود إلى السطح القضية الأخطر من حيث دلالتها على النفوذ غير الرسمى: العلاقة بين الرئيس الأمريكى ترامب، وجيفري إبستين، والموساد.
إبستين، الذي توفي في ظروف غامضة، كان محورًا لشبكة يُشتبه في استخدامها لتوريط رجال سلطة وأعمال فى فضائح أخلاقية مُصورة، تُستغل لاحقًا كأدوات ضغط.
وجود ترامب في هذه الدائرة لم يكن عرضيًا، بل مؤسسًا على شبكة مصالح مترابطة مع تل أبيب، خصوصًا من خلال صهره جاريد كوشنر. وقرارات ترامب -من الاعتراف بالقدس، إلى السلام الإبراهيمى، إلى محاولة فرض صفقة القرن، وضرب المنشآت النووية الإيرانية- يمكن فهمها جزئيًا أيضًا في سياق شبكة ضغط ناعمة، تتداخل فيها السياسة، والمال، والمخابرات، وتُستخدم فيها أدوات غير تقليدية لتوجيه القرار الأميركي لصالح إسرائيل.
قضية إبستين وعلاقة شبكته وبالموساد الإسرائيلى تتصاعد وتخرج عن السيطرة فى الرأى العام الأمريكى، وبالذات فى أوساط “ماجا” المؤيدة لترامب، التى بدأت عناصر مؤثرة فيها تطرح تساؤلات عن مدى مراعاة قرارات الرئيس الأمريكى للمصلحة الأمريكية، وعن مدى تغلغل النفوذ الإسرائيلى فى مؤسسات الحكم الأمريكية.
ما يحدث اليوم فى الولايات المتحدة يشير إلى أن إسرائيل لم تعد كما كانت. لم تعد ملفًا فوق السياسة، بل أصبحت موضوعًا للنقاش، بل وللمساءلة. هناك جيل جديد في واشنطن لا يُقنعه خطاب الأمن الإسرائيلي، ولا يتسامح مع القمع المفرط باسم محاربة الإرهاب.
تراجع الدعم الشعبي، وانكشاف العلاقة الخاصة بوسائل غير ديمقراطية، واتساع الفجوة بين المؤسسة الأميركية وقواعدها، كلها مؤشرات على أن التحالف الاستراتيجي التقليدي بين أمريكا وإسرائيل بصدد دخول مرحلة إعادة تقييم حقيقية.
تغريدة البجعة
ما يجرى اليوم ليس انتصارًا لإسرائيل بقدر ما هو إعلان عن أزمتها العميقة.
فى تقديرى، نحن بصدد تغريدة البجعة الإسرائيلية.
فإسرائيل نتنياهو وحكومة اليمين الدينى المتطرف، وهى تهرب إلى الأمام من أفق مسدود، تحاول فرض هيمنتها فى الشرق الأوسط. هيمنة مستحيلة!
الممارسات الإسرائيلية القائمة على العنف العارى والاستباحة الكاملة للخصوم والاستهانة الكاملة بالقانون الدولى القانون الدولى الإنسانى وبالرأى العام العالمى لا تنتج إلا دمارا شاملا، وعدم استقرار دائما، أو استقرارا بالعنف غير قابل للاستمرار، سواء فى فلسطين المحتلة أو على صعيد النظام الإقليمى.
خسائر إسرائيل فى السياسة والسمعة والسردية والاقتصاد والعسكرية لا يمكن لها تحملها على المديين المتوسط والبعيد، حتى وإن نجحت فى فرض سطوتها فى الوقت الراهن من خلال سيف المعز وذهبه والتحالفات المصلحية المرحلية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى