رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :عندما تصبح النار ستراً

كلما ظهرت صورة مسيئة للمرأة، بزغت صورة خالدة تركي في الذاكرة كما لو ان الرموز النظيفة تقاوم صور الابتذال،
كما لو ان خالدة تركي تحولت الى طيف خارج الزمان وخارج المكان يسافر عبر الزمن ، وهذا الوجه المشرق النظيف للمرأة يختفي أمام صور البشاعة والابتذال.
ـ” إنه ثوبي إحترك، صار الستر دخان” * الشاعر إيهاب الركابي عن خالدة تركي.
في الضجيج وتراكم الاحداث تضيع حقائق مشرقة ولا تظهر الا الصور البشعة والمنحرفة، العشيقة المجرمة والخائنة اللعوب زوجة المغفل المغدور النائم ، كما لو أن هذا هو المعيار والقاعدة،
لكن لا يمكن لكل صور السوء أن تلغي جمال ونقاء الجانب المشرق من الحياة.
رغم ان الحدث يعود الى سنوات، لكنه يبزغ في الذاكرة بين وقت وآخر،
كقوس قزح أو نشيد حزين لكنه مشرف. كيف يمكن الكتابة عن خالدة دون أن ترتعش أو تجهش؟.
خالدة تركي مدرسة من البصرة، احترقت سيارتها بعد انفجار في المنطقة،
احترقت ثيابها داخل السيارة، وعندما جاء رجال الشرطة وسحبوها، ووجدت نفسها عارية،
عادت للسيارة المحترقة لتستر نفسها بالنار، وتتحول إلى رماد.
خالدة تركي مثل كثيرات غيرها لا يظهرن في الصور المبتذلة، فضلت النار على أن ترى نفسها مكشوفة أمام الناس حتى لو كان الثمن هو الموت، حرقاً.
النار ولا العري: هذا هو قرار خالدة وهي وحدها من يقرر. خالدة تركي ومثيلاتها تغيب صورهن ومواقفهن المشرفة المشرقة في زمن مبتذل،
كما لو يراد جعل حياتنا خليطاً من صور القاتل والنصّاب واللص والمشوهة ومحترفة الأقنعة.
خالدة تركي ليست تربية سرير عابر في الليل وحجاب في النهار،
ولا تعدد الشخصيات، ولا علاقات سرية ولا تعرف تبديل الاقنعة
حسب كل مكان وسرير وعمارة وشارع ورجل وظرف، ولا تؤمن بشيء وتفعل عكسه،
بل تعيش في انسجام وصفاء وتناسق داخلي مع نفسها،
ولم تكن النار امتحاناً لها،
ولم تتخذ هذا الموقف الاستثنائي في تلك اللحظة،
بل هو قرار خالدة تركي العميق الجذور في قداسة الجسد حتى أمام الموت،
في زمن صار العري العام في السياسة والثقافة والاقتصاد والعلاقات مدرسة سلوكية للتباهي والتفاخر، كل أنواع العري: العري الجسدي والسياسي والثقافي والديني والأخلاقي.
خالدة تركي هي نفسها شخصية موحدة منسجمة متماسكة كسبيكة الذهب
في البيت ومع نفسها والمدرسة والشارع وحتى وهي تحترق. لم تجعلها النار تتخلى عن قيمها لانها عميقة وراسخة ومتجذرة وليست أقنعة تستبدل حسب الشخوص والمناسبات في كرنفال تنكري.
رجل الشرطة الذي حاول انقاذها، وهربت منه الى السيارة المحترقة وشاهدها رماداً، بكى وصرخ:
” سترتِ روحك بالنار؟”
اليوم هناك تمثال في البصرة للسيارة المحترقة وفوقها أمرأة تحترق هي خالدة: لمن يكون الخلود لغير خالدة؟
رغم ان خالدة تركي صارت رماداً، لكن للمرة الأولى يتحول الرماد إلى خلود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى