السفير أحمد مجاهد يكتب :بعد سبعين عاماً، ماذا تبقى لنا من إرث الرئيس جمال عبد الناصر؟ محاولة تقييم موضوعية (١-٥)

كعادتنا فى هذا الوقت من كل عام، لاسيما منذ ثورة يناير ٢٠١١، يتنازع السوشيال ميديا المصرية تياران، أحدهما يعدد إنجازات الرئيس جمال عبد الناصر وثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، والثانى قطاع عريض جديد ينطلق هجوماً على الزعيم -مصحوباً بصورته الشهيرة وهو يشير مستبشراً للجماهير من شباك القطار، ويراها هذا الفريق مرحلة كارثية محت إنجازات عصر ذهبى أيام الملكية الليبرالية، وقادتنا إلى الأوضاع التى تعيشها مصر حتى اليوم.
فى غياب الوثائق الرسمية، لابد من تتبع المسارات والمآلات من خلال آثار السياسات ومحتوى المذكرات والدراسات، وذلك حتى نستطيع أن نقيم/نقوّم، بشكل موضوعى قدر الإمكان، ماذا ترك لنا -حقيقةً- الرّيس جمال، وما الذى بقى -فعلياً- من إرثه.
كانت “حركة الجيش المباركة” لإسقاط وإبعاد الملك فاروق نتاجاً طبيعياً لأزمة الحكم والمجتمع الحادة والعميقة التى تفاقمت بضراوة فى السنين الأخيرة لفاروق، وانحرفت إلى حد بعيد عن أهداف ثورة ١٩١٩ الشعبية، التى اضطرت بريطانيا لمنح مصر استقلالها الإسمى وأسست لدستور ١٩٢٣ والمرحلة الليبرالية-الديمقراطية تحت حكم قصرى الدوبارة وعابدين؛ كما كانت بكل تأكيد حدثاً تاريخياً فارقاً أنهى قرنا ونصف قرن من حكم أسرة محمد على، ونصَّب على كرسى الحكم حاكماً مصرياً للمرة الأولى منذ آلاف السنين، هو الرئيس اللواء محمد نجيب (تحوّل لاحقاً فى مناهج التعليم والإعلام فى مصر إلى الرئيس ناصر).
اعتمد قادة الحركة فى نجاحها على تغاضى وتعاطف الفريق حيدر باشا وزير الحربية فى فترة حرب فلسطين ثم القائد العام للقوات المسلحة وقت تحرك الضباط الأحرار ضد الملك (وهو ابن خال والدة المشير عبد الحكيم عامر، وتقدم باستقالته يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢). هذا بالإضافة إلى التنسيق الكبير مع الإخوان المسلمين. كما عوّلت الحركة فى بواكيرها على الدعم الأمريكى الذى حال دون تدخل الاحتلال البريطانى لقمع حركة الجيش والدفاع عن عرش فاروق. كانت التقديرات الأمريكية أن الحكم العسكرى الشاب بمقدوره وحده القيام بالعملية التحديثية المرغوبة، وقطع الطريق على ثورة غضب شعبية تنقل مصر إلى المعسكر الشيوعى.
لكن امتناع عبد الناصر لاحقاً عن مسايرة الاستراتيجيات الأمنية الأمريكية والبريطانية، وامتناع واشنطن ولندن عن مواكبة الطموحات الناصرية فى التسليح وتمويل مشاريع التحديث سار بالمعطيات الاستراتيجية والتحالفات الإقليمية فى مصر والمنطقة فى اتجاه آخر.
انتصر الرئيس عبد الناصر فى صراعه على السلطة فى مواجهة القائد الرسمى لحركة الجيش اللواء نجيب، مؤسس النظام الجمهورى ورئيس الجمهورية منذ يونيو ١٩٥٣. وقضى على تهديدات قوى المعارضة السياسية المتمثلة فى بقايا النظام القديم، وكذلك على القوة المجتمعية المناظرة الوحيدة القادرة على تهديد نظام الحُكم الوليد، أى الإخوان المسلمون. كما لاحق الحركة الشيوعية وحاصرها ثم استقطبها لاحقاً، ونجح فى ترسيخ سلطته، وأنهى الهياكل والممارسات السياسية الناشئة عن ثورة ١٩١٩ (النظام البرلمانى، والانتخابات الحرة، والتعددية الحزبية، ومبادئ الفصل بين السلطات، وتداول السلطة).
سرعان ما تحول الانقلاب العسكرى الأبيض إلى “ثورة من أعلى” سياسية واقتصادية واجتماعية، نجحت فى تحقيق الاستقلال النهائى عن بريطانيا، وسعت إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وتحسين أحوال ملايين المصريين.
وتمكنت هذه السياسة الناصرية من التأسيس لنجاحات كبيرة، لا سيما فى مجالات التصنيع وإطلاق فرص التعليم والرعاية الصحية والتوظيف والملكية الزراعية للقطاعات العريضة الأكثر فقراً.
وقامت السياسة الثورية الداخلية للرئيس عبد الناصر على عقد اجتماعى ضمنى قوامه تنازل المواطنين عن حقوقهم السياسية مقابل تولى نظام الحكم المسؤولية الاقتصادية والاجتماعية والخارجية بالنيابة عن هؤلاء المواطنين.
وربما كان بالإمكان مضاعفة وترسيخ واستدامة هذه النجاحات، لولا ما أحاط بتنفيذ السياسات الثورية من جوانب قصور واضحة، فى ضوء نقص خبرة وثقافة الضباط الشباب المتحمسين فى الحُكم، وسيادة ثقافة “تمام يا افندم” و”برقبتى يا ريس”، واعتمادهم ما يعرفونه من منطق الأمر والطاعة العسكرى فى الحياة المدنية، والاستناد المتكرر إلى مبدأ التجربة والخطأ المهدِر للطاقات والموارد، والاعتماد على أهل الولاء من المتزلفين محدودى العقلية والقدرات، أو من الكفاءات المتميزة المطيعة ذات الإخلاص لطموحها السياسى. هذا فضلاً عن قصور التخطيط الاستراتيجى طويل المدى.
كانت النجاحات التنموية للثورة حقيقية ولكنها مرحلية، لم ترتق فى النهاية إلى مستوى الوعود والتطلعات.
وظهرت الآثار السلبية للتجربة وتراجع مستوى الأداء العام، كما أخذت مستويات التصنيع والتعليم والصحة والإنتاجية الزارعية فى التدهور.
،أهم أسباب ذلك: ضعف الحافز الشخصى وعدم كفاءة توزيع العوائد، وبدء صعود الفساد تحت نظام التوجيه المركزى البيروقراطى، والمبالغة فى الأمننة الخانقة لطاقات المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، تكرر الإهدار الواسع للموارد المحدودة المتناقصة فى مغامرات خارجية غير محسوبة بالقدر الكافى لا رقابة عليها ولا مراجعة، وبالتالى اتسعت الفجوة التمويلية مما أدى إلى عدم القدرة على تمويل المشروع الثورى.
كما ظهر ضعف قدرة الحُكم على التكيف مع الضغوط والقيود والمؤامرات الخارجية أو مواجهتها بكفاءة من خلال السياسات والتحالفات الرابحة.
وتمت محاولة تغطية أوجه القصور تلك بالزعامة الكاريزمية والخطاب الشعبوى
.والمزيد من الاعتماد على الاتحاد السوفييتى
لكن ذلك لم يكن كافياً. وتجلت المفارقة بين وعود الثورة والاشتراكية للرئيس عبد الناصر وبين التراجع الاقتصادى والاجتماعى التدريجى فى مصر، لا سيما ابتداء من عام ١٩٦٥. (وكانت الجنازة الشعبية الحاشدة للزعيم مصطفى النحاس فى أغسطس ١٩٦٥ رسالة واضحة فى هذا الشأن).