رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :بلاد على طاولة التشريح

ـــــــإذا كان الكاتب متصالحاً مع الجميع، فلماذا لا يصبح بائع شاورمة؟ * حنا مينه، روائي سوري.
الذين يتحدثون عن المنفى لا يعرفون عن أي شيء يتحدثون لأن المنفى المكاني أهون المنافي ومحطة خصب احيانا، وبديل عن مكان تكون الحياة فيه نوعاً من التمرين على جهنم،
تتناسل المنافي فيه من منفى اللغة عندما تحلم بلغة وتتحدث
مع نفسك بلغة وتتكلم بلغة أخرى للتحاشي،
الى منفى الجسد عندما تفشل في كشف مشاعرك السوية العميقة،
وتصبح مدفناً عفناً متجولاً للمشاعر، حتى الطبيعة تصبح أشباحاً متربصة خلف الاشجار، وتنزلق الفصول والسنوات كغيوم فوق مقبرة،
وإذا كنت كاتباً أو مثقفاً، فستدخل في صراع ومنفى من لحظة حمل القلم. اذا كان الكاتب متطابقا ومتصالحا مع الجميع، فما قيمة ومعنى الكتابة كنظام بديل؟
في مجتمع التناسخ والتشابه والاشباه، يكون الكاتب” المختلف” ظاهرة غريبة وعجيبة كولادة عصفور من بقرة أو كبوذي في موكب عزاء كربلائي أو كتمساح يعزف بيانو: التشابه في بلادنا أقدم وأهم من الاختلاف لذلك أنتجنا مجتمعاً بنسخة واحدة ثابتة لا تتغير عبر العصور.
الكاتب والمثقف المتطابق والمتصالح مع” الجماهير” هو ببغاء صنعته الأحزاب الشمولية لبيع الأوهام للناس لأجل الكسب الحزبي على حساب الحقائق وكانت النتائج حمامات دم وبلاد محتلة وضياع ثروة ووطن ولحس هو أقواله وانتقل الى شواطئ أخرى بعد أن بدّل المعطف وليس الموقف.
الببغاء الحزبي بعد فشل الدور وفشل اللغة وتخلى عنه حزبه لفشل المشروع ولم يعد يحتاجه، هذا الببغاء انتقل الى الأدب وصار يكتب الأدب بلغة السياسة في النسخ الرديئة وكما خرب لغة السياسة، خرب لغة الأدب، وصار يحارب في الأدب بقواعد السياسة لأن الكلب الهرم لا يتعلم عادة جديدة، باللغة السوقية نفسها لكن بقشرة ثقافية ونقدية باهتة للتمويه لكنها اللغة القديمة للكاتب الشعاراتي التي تتداخل فيها مفردات السب والشتم تداخل أنياب الكلب.
ومزج بين التجربتين ــــــــــ تجربة السياسة والأدب ــــــ وكانت النتيجة مخلوقاً مهجناً لا هو سياسي ولا هو مثقف حداثي ولا هو أديب وأضاع المشيتين في مجتمع لا يحاسب الكاتب على إفلاس لغة ودور ومشروع بل مشغول بمحاسبة السياسي مع أن خلف كل سياسي فريق من الكتبة والمستكتبين لكتابة خطبه لكنهم في العتمة.
بتعبير ايزابيل الليندي لم يترك لي الأدب صديقاً ودخلت في صراع مع الجميع. الكاتب والمثقف ليس مطرباً أو راقصة لكي يحبه الجميع ، رضا” الجميع” مستحيل وهو آخر ما يحلم به بل العمل على هدم المعبد على رؤوس الجميع وأن يكون كالثعلب يغادر المكان تاركا خلفه الغبار والصراخ دون أن يلتفت ومن يريد ان يكون متطابقا مع الجميع هو” المستكتب” المتصالح مع الجميع ومن لا يملك لغة بديلة ولا صورة مختلفة عن تاريخ مختلف وقصة حياة جديدة.
في وطن على طاولة التشريح تصبح غريباً في مجتمع غرباء وتتداعى كل الفضائل الوهمية والمتخيلة التي تخلعها الذاكرة على الوطن. الوطن هو الصديق والحارس والآمن والضامن والحائط الذي تتكيء عليه وعكس ذلك ليس وطناً بل معسكر اعتقال بعنوان مزيف: وطن.
عندما قرأت كتاب الروائية التشيلية إيزابيل الليندي” بلدي المخترع” سيرة ذاتية لم افهم خيبة الكاتبة من زيارة بلدها تشيلي بعد سقوط النظام الدكتاتوري بزعامة الجنرال بينوشيت الذي حرضته
الولايات المتحدة للإنقلاب على حكم الرئيس الشرعي المنتخب سلفادور الليندي.
في صفحات مشرقة بالحب والكآبة والشوق تقول إنها عادت الى بلدها الذي هربت منه عام 1973، عام سقوط الديمقراطية، لكنها لم تجد تشيلي التي عرفتها وكل شيء تغير،
وتغير نحو الأسوأ وصارت العمارات الاسمنتية والمراكز التجارية كالشياطين تطل على شوارع العاصمة سانتياغو،
وتصحر الريف الى شقق وفيللات واختفت أو تضاءلت الروح التشيلية،
لذلك قررت العودة الى المنفى الأمريكي.
هنا المفارقة، أي العودة للعيش تحت رعاية النظام الذي شردها وخلق فواجع القتل والاختفاء القسري والاعدامات العلنية التي لم يسلم منها المغني فيكتور جارا الذي قتل وهو يغني ضد الانقلابيين ومات يومها الشاعر بابلو نيرودا وهو يصرخ في النقالة:
“تعالوا إنظروا الدم في الشوارع”
وخلال هروبها من تشيلي عملت على تكوين منظمة سرية لتهريب الكتاب والمثقفين المهددين واستطاعت انقاذ الكثيرين. تقول الليندي في العودة المعاكسة الى المنفى أن تحلم ببلد أفضل من أن تراه محطماً.
تركت بلدها وفيه بقايا قيم وجمال ووضوح ووعود وعادت الى بلاد رمادية تعيش في شتاء نفسي معتم وكئيب.
هي محنة الروائي ميلان كونديرا التشيكي تجسدها روايته” الجهل” عن عودة غوستاف وإيرينا بعد نهاية الحكم الشيوعي فلم يعثرا على الوطن الذي تحملا الوجع والحنين والمنفى والذاكرة لأجله،
في النهاية يعود غوستاف، ميلان كوندير نفسه ، الى منفاه الفرنسي،
ليعيش في وطن مخترع متخيل.
غوستاف وجد بعد التحولات العاصفة في التشيك بلاهة تجارية بدل الايديولوجيا السياسية وإختفى الرفاق وحلّ مكانهم النصابون،
لم يعد الحنين الى وطن مشوه بل الحنين الى وطن متخيل، وكونديرا الذي يزور التشيك سراً لا يلتقي بالنخبة الأدبية التي حاربته مرتين في حملات تشهير : مرة في الزمن الشيوعي وثانية بعد التحولات العاصفة في التشيك وتقسيم تشيكوسلوفاكيا الى تشيك وسلوفاكيا وحسب وصيته دفن عام 2023. في مقبرة مونبارناس بباريس. هو محنة إيزابيل الليندي أيضاً.
في ملحمة الأوديسة تتمة ملحمة الالياذة لهوميروس عاد عوليس إلى إيثاكا من المنفى في نهاية حرب طروادة، بعد سنوات من الحنين والمنفى،
لكنه إكتشف أن أحداً لا يتذكره والجميع عاشوا أحياءً في ذاكرته. نسوه.
على أي شيء يحيل كل ذلك؟ إيزابيل وكونديرا وعوليس؟
هل يستحق عراق اليوم أن نراه بخرابه الكبير ويوم تركناه كانت هناك أشياء كثيرة باقية تستحق الحنين وهناك بقايا قيم ومسرات جميلة
حتى لو مسروقة من أعماق الجحيم وكانت الحدود والعلاقات والمواقع واضحة وليس كتداخل اليوم المروع حيث لا تعرف الوجه من القناع.
في عراق اليوم نقاش حاد وساخن عن احتمال حصار، عن اغتيالات ستطال أشخاصا، عن انقلاب ما، عن صراع مسلح، وعن الخ، بين مؤيد ورافض كجمهور متفرج لكرة القدم.
هل من المعقول ان يحدث مثل هذا النقاش عن مصير بلد موضوع على طاولة التشريح في بلد معافى وبين بشر أسوياء؟ هل هناك في أي بلد في العالم أن يدور حوار عن قتل وشيك بين مؤيد ومشجع ومنتظر له وبين رافض وبين صامت لا يعرف ماذا يدور ومن يصنع مصيره؟ هل يحدث هذا النقاش في شعب حي وعلناً؟
لم أعد أردد عبارة كونديرا:
” غيوم المغيب البرتقالية تضفي على كل شيء ألق الحنين حتى على المقصلة”.
من الأفضل أن نحلم بوطن مخترع بدل الحياة في وطن صار نفسه مقصلة وصار القتل فيه وجهة نظر ومشروع سياسة وليس جريمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى