د . أنور ساطع أصفري يكتب :مَنْ يبتكر ويصنع الوعي ؟ .

الوعي بشكلٍ عام هو قدرة عقل الإنسان على إدراك وفهم واستيعاب الأمور التي تجري في محيطه ، سواء كانت أحداث أو حقائق و وقائع .
إن الوعي في بصماته الحقيقية يتجلّى في استيعاب الإنسان لما يدور حوله من قضايا وأمور ، ويستطيع من خلال ذلك إتخاذ القرارات الصائبة ، أو على الأقل تكوين تصوّر واضح بخصوص تلك القضايا .
أمّا إذا لم يتمكّن الإنسان من تكوين قراراتٍ صحيحة أو تصوّر ومفهوم جلي حول تلك القضايا فإن الوعي لديه ليس بوعيٍ حقيقي بل زائفاً .
من المعروف أن الأدباء في العصور السابقة والمفكرون هم الذين كانوا يقودون صناعة الوعي للمجتمع ، وكانوا في ذلك الوقت يواجهون الضغوط المختلفة في مسارهم الفكري ، ويقفون بتحدٍ أمام كل المطبات والتحديات الفكرية التي كانوا يتعرّضون لها .
أمّا في وقتنا الحالي نرى أن الأمور اختلفت كثيراً ، فهناك مؤثّرات كثيرة تسلب نظر الجمهور وشباب اليوم ، إن كان في مجال السياحة أو الفنون أو التجميل أو الموضة أو حتّى المأكولات وصولاً إلى الفكر والسياسة .
إن المغريات التي تواجهنا اليوم كثيرة وقوية ، تجعل الوعي مختلفاً تماماً عمّا كان عليه ، من خلالِ أجندات وأيديولوجيات سياسية مفتعلة بهدفِ إعادةِ تشكيل الوعي بما يتناسب مع مصالح مدفوعة الأجر لمن يُوجّه الأمور .
عملية صناعة الوعي الآن معقّدة ، ولم تعد حكراً على طرفٍ واحد مثل الأدباء والمثقفين والمفكرين ، بل أصبحت أكثر تعقيداً ، وتتداخل فيها ملفات كثيرة أيضاً ، لم تك متوفرة قبل ذلك ، حيث تم استحداثها وأخذت دورها في هذا المجال .
نحن في عصرٍ كلّ شيء فيه يتسارع وينمو ، ويؤثّر سلباً على الوعي وعلى القيم والثوابت ، حتّى على الحسّ الإنساني .
وهذا الموقف يدعونا أكثر من أي وقتٍ مضى أن نناشد الأدباء والكتاب والمفكرين أن يأخذوا دورهم المعهود بهم في صناعة الوعي ، وتشكيل الرؤى والمعطيات ، وتحديد مسار البوصلة كما كانوا في سابق عهدهم .
وعلينا أن نعترف بذات الوقت أن هناك جهات أخرى امتطت الموجة واستخدمت كلّ سبلها وتأثيرها المباشر في عملية صناعة وتشكيل الوعي وفق مصالحها ، حيث تداخلت وتشابكت الأجندات مع أدوات الإعلام والتكنولوجيا والسلطة ، بشكلٍ واسعٍ وغير مسبوق .
ما كان يُميّز العصور السابقة وبشكلٍ جلي ، أنها كانت تحتضن المفكرين النخبة وتتميّز بهم ، وكانوا يعملون من أجل الوعي والفكر من خلال الكتابة والخطابة بهدف صناعة الوعي للمجتمع ، لقد كانوا بمثابة المنارة التي تضيء الدرب أمام الحشد ، وأمام الأجيال والأبناء والأحفاد ، وكانت بصماتهم هي التي تبني وعي الأمّة ، وتؤمّن لها البوصلة السليمة لمسيرتها ، آخذين بعين الاعتبار بأن هؤلاء المفكرين والكتّاب كانوا يتعرضون للخطر ولظروفٍ صعبة ، بما فيها السجن ، لكن صوتهم لم يخفت ، و قلمهم لم يجف ، ولم يُصب بالشلل ، وبقيت عقولهم مشغولة بكل معنى الكلمة بمستقبل وسلامة الأمّة والمجتمع .
أمّا الآن فلم يعد هناك أي دور يُذكر للمفكرين والمثقفين ولا لعمالقة الكلمة في صناعة الوعي ، وأصبح المتنفّذون ومراكز القوى من يتحكّم بالوعي و بصناعته وتصديره لأفراد المجتمع ، بطرقٍ وأساليب مختلفة .
رجال الدين سابقاً وما يحملونه من توجيهات و رسائل أخلاقية وروحية شعائرية ، لعبوا دوراً نزيهاً وفاعلاً في صناعة الوعي ، أمّا رجال الدين حالياً وما يحملونه من توظيفٍ لمهامهم من قبلِ جهاتٍ مختلفة ، بدا استغلال الدين في صناعة الوعي واضحاً وفقاً للتوجيهات السياسية والأجندات الخاصّة بمراكز القوى ، التي تُسيّر الحكم وفق مصالحها ، والتي تستغل الدين من خلال تُجّار الدين الذين شكّلوا الدعم الأساسي لأنظمة الحكم القائمة .
حيث أن أنظمة الحكم الحالية تُدرك كيف تُسيّر الوعي وفق أجنداتها ، ووفق برامج وخطط سياسية مسبقة الصنع ، ودُرست بعناية ، كي يتماشى الوعي المرسوم مع كافة خطواتها السياسية ، إن كان على المستوى الداخلي أو الخارجي ، من خلال أيديولوجيات مُسيّسة ، وأصوات مواقف مدفوعة الأجر . ومن خلال هكذا نهج استطاعوا أن يجعلوا لأنفسهم أتباع . إنّه واقع مؤسف .
قال ” جون لوك ” الذي يُعتبر من الفلاسفة الأوائل الذين تحدّثوا عن الوعي ، وأشار ” بأن الوعي مرتبط ارتباطاً مباشراً و وثيقاً بشخصية الإنسان وهويته ، وغير مرتبط بأي شكلٍ من الأشكال بالجسد ” ، كما أشار إلى أن ” وعي الإنسان يظلّ على وضعه كما هو بعد مفارقته للحياة ، والسبب في ذلك أن الوعي غير مرتبط بالجسد ، ومعنى ذلك أن الوعي يظلّ متصل بالإنسان بعد موته ” .
بينما أفضل من قدّموا تعريفاً واضحاً للوعي ومفهومه وبين نظرية الفكر الأعلى من الفلاسفة ، هو الفيلسوف ” ليبنتز ” ، حيث قال ” إن الحالة التي يكون فيها الفرد في حالةٍ من الوعي أو في أعلى قمة ونقطة لوعيه ، هي تلك الحالة التي يحدث فيها استيعاب وإدراك ، وأن الإنسان يستطيع أن ينتقل ويقوم بتحويل حالة اللاوعي التي لديه إلى حالة من الوعي والاستيعاب عند مقدرته على القيام بالإدراك والاستيعاب ” .
الوعي هو الإدراك ، أو ما يصل إليها العقل البشري من الحالة الإدراكية ، بسبب تواصل الإنسان مع محيطه والاحتكاك مع بيئته والمحيطين به بكل حواسه .
وتوسّع علم الفلسفة في مفهوم الوعي ، وتحدّث عن الوعي العفوي ، مثل مقدرة الإنسان على القيام بأكثر من نشاط في وقتٍ واحد . والوعي الأخلاقي ، وهو مجموعة معايير ومن خلالها إمّا أن تتقبّل أمور الآخرين أو رفضها . والوعي الحدسي ، وهو وعي يعتمد على الحدس بالفطرة ولا يُستدل عليه لأنه يحدث فجأة . والوعي التأملي ، وهو قيام الإنسان المتمتع بدرجةٍ عالية من الذكاء والاستيعاب بعملٍ يحتاج إلى المزيد من التركيز .
إن الإنسان يمر بتجارب عديدة في مسيرة حياته من خلال احتكاكه مع مثقفي بيئته ، ويكتسب خبراتٍ مختلفة ، التي من خلالها يستطيع أن يُكوّن حيّزاً جيداً من المعرفة والأفكار ، وأيضاً المعتقدات والمفاهيم التي تساهم بشكلٍ أو بآخر بتشكيل الوعي لديه .
وتبقى الفلسفة في المقام الأول من حيث قدرتها على شرح مفهوم الوعي ، ومن خلال وجهات نظر مختلفة ، وبالمحصّلة نستنتج بأن الوعي هو بدقيق العبارة مقدرة الإنسان على تحصيل الأفكار واتخاذ قرارات مناسبة .
آخذين بعين الاعتبار بأن ردة الفعل لأي شخص هو نشاط فكري واعي أو غير واعي ، يصدر عن هذا الشخص تجاه ما يصله من العالم الخارجي .
فالوعي هو إدراك عقلي فلسفياً ، لأن الفلسفة ” عند البعض ” تربط بشكلٍ مباشر الوعي بالعقل والتأمل .
الوعي فعلٌ تاريخي .
الآن من يتحكّم بوعي الشعوب أجندات شريرة ومشبوهة ، لذلك من واجب الأفراد والجماعات والمثقفون العرب أن يعملوا على دعم الوعي الجماعي بكل إمكانياتهم ومواهبهم ، صناعة الوعي لا تكتمل ولا تتأتّى إلاّ من خلال الاستفادة الكاملة من كلّ الكفاءات والطاقة البشرية ، بهدف جذب الناس إلى الفكر النبيل والأصيل ، والثقافة الواعية الهادفة وبكل أمانة .
هكذا نستطيع التمسّك بثوابتنا ومفكرينا وحكمائنا وشخصياتنا المؤثّرة ، كي تعود إلينا مقوّمات النهوض بمستوى وعينا الأصيل .
من المعروف أن وعي أُمّتنا قد تعرّض تباعاً لحملات تشويه ما زلنا نعيش انعكاساته لغاية يومنا هذا ، آخذين بعين الاعتبار أن الأنظمة التي توالت على بلداننا قد ساهمت في هذا التشويه من خلال التبعية العمياء التي شوّهت الأوطان والشعوب ، فوعي الأمّة المشوّه لعب دوراً بارزاً في هزائم الإقليم ، حيث تمت محاربة الوعي الخلاّق والمبدع الأصيل ، وفُتحت الأبواب أمام وعيٍ مشبوه وهجين مسموم ، لا يعنيه إلاّ مصالحه ومكاسبه ، ولا يعترف إلاّ بالمرجعيات المنحرفة عن مسار وعينا النقي السامي .
لقد لوّثت المؤسسات الإعلامية العربية كما الأنظمة العربية وخلال مسيرة طويلةٍ من السنوات عقول الكثير من أبناء الأمّة ، وغذّت النشء والأجيال بمصطلحات ومفاهيم مطبوخةٍ بسموم تبيد الوعي الوطني ، والوعي الأخلاقي والإنساني ، وتزرع اليأس في نفوس البشر ، وتساهم في تفتيت البلاد إن كان مذهبياً أو عرقياً أو دينياً .
دول العالم تفتخر بنفسها وتبني وجودها من خلال سياسة مستقلة تحفظ حدودها وسيادتها ووحدة أراضيها ، وتصون كرامة كلّ مواطنٍ لديها ، وثراء حضارتها . وليس كما الأنظمة العربية تقوم وتنتعش على التبعية العمياء التي دمّرت الأوطان والشعوب ، وتُهرول وراء أوهام السياسة وتُنفّذ ما يُملى عليها ، من أجلِ الكرسي ، حتّى ولو باعت عروبتها وأوطانها .
نحن أُمّة لم نعد نستطيع إعادة سيادتها و وجودها من خلال المحاضرات والمقالات والخطب ، أو معارض اللوحات والصور ، فالمنطقة أمام أزمة حقيقية لا تُواجه إلاّ بثورةٍ ثقافية وفكرية حقيقية ، ثورة تعيد للوعي والفكر مكانته المرموقة التي كان يتحلّى بها ، وتعيد للكاتب صدى صوته ، وللقارئ شغفه للوعي والمعرفة .
الأمم لا تُبنى فقط بالجيوش والمؤسسات الأمنية ، بل تُبنى من خلال نشر الوعي السليم والأفكار البنّاءة .
إننا بأمسِ الحاجةِ إلى أن نُعيد للكلمة حصانتها ومكانتها ، وأن نعيد إنتاج نخبةٍ من الحكماء تقود المجتمع والبلاد ، ولا بُدّ من مقاومة كلّ أشكال التفاهة والانزلاق والتبعية والإستهتار بمقدرات الأمّة وثوابتها .