الكتيبة 103…..قصه قصيره بقلم / فارس على حزين

ظل يسترسل في حديثه بهدوء، وأنا أستمع له, بإنصات, وباهتمام بالغ, حتى أعطيه الحل الأخير, كما اعتاد مني دائماً,
ــ طلبت خطبتها من أبي فرفض, متعللا بأنني ما زلت في الجامعة, ولم أُنهي فترة الجيش بعد ..؟!!.
قالها لي, وهو يخرج من فمه كتلة كبيرة من الدخان الكثيف الذي سرعان ما تطاير وتلاشى في الهواء..
” هو صديقي المقرب الذي دامت صداقتي معه سنوات الكلية الأربع, ثم دخلت الجيش , فوجدته معي في نفس الوحدة التي أنا بها, وفي نفس الكتيبة أيضا,”.
لكزني, برفق, وهو يبتسم مكملا حديثه لي: ,
ــ فاكر البنت “غنى”
ــ ………….
ــ لما بتشوفني في الطريق تفضل تبص لي, وزي ما تكون عايزه تكلمني, وأنا بصراحة نفسي أكلمها بس خايف من ردة فعلها,
عاوز أكلمها لكن مش قادر, والى الأن مش عارف أنساها, وكلما مررت عند منطقتها, افتكرتها,
ضحكتُ من كل قلبي عليه, حين رأيت شكله يتحول ويتلون مع كل جملة يقذفها من فمه وكأنه قد نبش جرحاً لا يلتئم وهو يحاول اخماده فلم يستطع, وقد أرضى غروره من خلال شتمها, وقذفها بأبشع الشتائم,
برهة صمت,سرح فيها بخياله بعيداً, ثم أردف يقول:
ــ كنت عاملها روميو في نفسي وأنا على آخر الزمن اتخزوق من بت الـ…. دي !! ..
وراح يضحك معي ويسخر مما حدث له, وهو ما زال يتحدث, وينظر إليّ بعين الصاحب, والطبيب النفسي, وفجأة رأيته توقف, عن الكلام, وهو ينظر لي في جدية، وحدة, وقد أدخل سيجارته القميئة في فمه ليرتشف منها النفس الأخير ثم قذف بها بعيداً عنا ونحن جالسون على نجيلة من الزرع الأخضر الصغير الناعم الطري, والشمس كانت ترمي بستائرها البرتقالية المتسللة من بين الغيوم الكثيفة وقت الغروب،..
ــ وانت مش عارف تنساها بردو؟ !..سألني وهو يلتفت إلي باهتمام
ــ قصدك مين ؟!.. أجبته مستفهماً :
ابتسم بعينين لئيمتين وقال ضاحكاً
ــ مين غيرها,.!.. أكيد بتكلم عن “زينب” التي كنت هاوسنا بيها طول الوقت, وبالآخر خزوقتك بردو,.
أحسست حينها بدمائي الساخنة تفور داخل جسدي الذي انتفض حين ذكر اسمها وكأنه جزء مفقود مني منذ زمن بعيد..
((” زينب ” فتاة عشرينية أقل ما يقال عنها أنها عبارة عن فتنة حية تمشي على الأرض، ذكية جداً لدرجة تجعلك ترى نفسك أمام
فتاة داهية من دواهي الزمن, تفكر بعقلها ثم بعدها تستشير قلبها وفي الغالب لا تأخذ رأيه وتكتفي بعقلها حتى وإن كان مخطئاً, أو ظالماً لها أو لغيرها في بعض الأمور, قد تراها لأول وهلة, أنها فتاة عادية بسيطة ولكن هذا ما تريد أن تُريك إياه منها فقط، ولم يدخل أحد أعماقها غيري أنا الذي أطلعتني على ما لم تُطلِع عليه أحدا, وأظن ذلك نظراً لتعاملي معها الذي استمر فترة طويلة من الزمن، قالت لي ذات مرة:
ــ أنت فريد من نوعك, وأول شخص يشد انتباهي, ويعجبني , رغم أنني كابرت, واستنكرت إلا أنني بالنهاية استسلمت وخضعت وصدقت قلبي وعقلي اللذين اجتمعا لأول مرة متفقين عليك، وعدت أصدق حقيقة كونك مختلفاً عن الجميع ، اولائك الذين حاولوا أن يوقعوني في غرامهم وماتوا بفشلهم الذريع.
((فمعجب الورد يقطفه ويرميه.. أما المُحِبُ فذاك الساقي الحامي,))
انتبهت لصوت صديقي لينتشلني من تفكيري.. وهو لا يزال يحادثني
ــ ايه زعلت من كلامي ولا ايه مش دي الحقيقة, حقيقة الحريم بشكل عام في البداية يوهموك إنهن ملائكة وتشوفهم على حقيقتهم في النهاية شياطين, أبالسة، أعوذ بالله منهن, إنهن بلاء عظيم لكن لابد منهن, نحن نوقع أنفسنا في هذا البلاء بأيدينا لأننا مانستغناش عنهن في النهاية.
ابتسمت له وأنا أحاول إغلاق ذلك الموضوع تماماً جملةً, وتفصيلاً, وقد أسندت ظهري على شجرة عتيقة وأغمضت
عينيّ وأنا أقول له مبتسماً:
ــ البدايات دائماً جميلة يا صديق, والنهايات هي الواقع المر الذي كنا نتغافل عنه ونحن منغمسين في سُكر لذة البدايات
ليأتينا على حين غفلة ويصفعنا على وجوهنا لنفيق من الوهم:
ــ “فلتفِق أيها الغبي”
عم الصمت بيننا, وسكن حفيف الزرع, وسكن الكون من حولنا, ورحت اتجول عبر الزمن بذاكرتي, وأتذكر ذلك الماضي البعيد, وأسترجع ما حدث, وما كان بيني وبين “زينب” بنت الحج “محمد” ذلك الرجل الذي أراد لها أن تتزوج من ابن عمها غصباً عنها, فرفضت, وراحت, وجاءت, وقلبت الدنيا رأساً على عقب، واستخدمت كل حيلة تتقنها, وكل سلاح معها, كالبكاء والدموع وادعاء المرض,.. الخ .. كيد النساء الذي تتقنه
وتواصلت مع عمتها لتخلصها من هذا المفروض عليها, فأخبرتها عمتها أنها ستعطيها الخلاص, على شرط, أن تأخذ في المقابل ابنها ليكون زوجاً لها, فقامت بسبها هي وابنها, ثم لجئت لخالها لينقذها, وأرسلت معه أمها ليثنياه عن رأيه, ولكن أباها, سامحه الله أصر على رأيه عناداً وكبراً, وأخبرها أنه لن يتنازل ولن يتوانى في تحقيق هدفه من زواجها لابن عمها, وعندما اسودّت الدنيا في وجهها واستنزفت كل محاولاتها همت لتقتل نفسها على مرأى منهم, ومسمع, وحينها خضع الجميع لرأيها, ونالت مفتاح حريتها
بيدها عنوة.. كل ذلك فعلته لأجلي, لأجل أن تكون لي وأكون لها, رجلها, وحبيبها, ومليكها .. فلماذا بالنهاية تركتني ورحلت
دون أن تلتفت ولو لمرة واحدة..ولم أدري ما سبب هذا البعد..؟!!, أضرمت في حياتي الجحيم, وتركتني ومضت, وأنا الذي أسكنتها قلبي , وصدقتها على اقتناع، نعم هي كانت لا تكذب، لا تخادع، تحب المواجهة والصراحة وما جعلني متأكداً لهذه الدرجة, حينما وضعتها في اختبارات تشيب لها الرؤوس, وكانت تنجح دائماً بكل بساطة دون معرفة منها أن ذلك من صنعي، بل ما زادني يقيناً أنني أنا نفسي لم أستطع أن أنال منها شيئاً, حتى ثقتها, وقلبها لم أنله بسهولة.. منذ البداية كانت صلبة التعامل، متحجرة المشاعر، ثقيلة اللسان، قليلة الكلام,ولكن بالنهاية جعلتها تنطق, تتكلم, وتقولها لي
ـــ أنا خُلقت لك , أنا ملكك أنت وفقط
وكانت تفيض حناناً وتزداد كل يوم جمالاً ودلالاً, وأصبحت ملكي أنا, بل وأجمل شيء في حياتي, وممتلكاتي, فكانت عالمي الجميل الذي كنت أهرب إليه من عالمي القاسي، فقد كنت معها محباً صادقاً راعياً لها كما ينبغي وكانت لي جنة الله في الأرض,
ربما يتحول القلب أحياناً عن أشياء كان قد عهدها ولكن أن يتغير إلى الثلثمائة وستين درجة دون سابق إنذار, فجأة هكذا, فهذا هو الشيء العجاب الذي قلب حياتي رأساً على عقب،كيف كانت.. وكيف أصبحت.. كانت.. وكانت.. فأصبحت وأصبحت؟؟؟؟!!! .. أإلى هذه الدرجة أصبحت مؤذية وخائنة, وغادرة لتلك الدرجة،”..
ــ أنت لسه بتحبها…
ــ أنا لا أحبها, بل اكرهها, وألعنها في كل صلاة ..
ــ طاب عيني في عينك كده..
قالها صديقي وسكت, ولم أعقب عليه ورحت أفكر بما قاله..
” أنا أكرهها, وأحبها في نفس الوقت، أحبها، لا، بل أنا متيم بها ولا أستطيع أن أرى حياتي بدونها فحياتي كانت هي قبل أن تكون حياتي حياة وكانت كل العالم بالنسبة لي،كانت هي الأنثى الوحيدة التي سكنت قلبي, وسعدت له روحي, واتخذها قِبلة, ومُصلَّى “زينب” تلك الحوراء الخمرية ذو الشامات الصغيرة على رقبتها التي كانت بمثابة خمر معتق لقلبي حين أراهم وأنا أنظر لها، ولعينيها العسلية أراني في انعكاسهما وكأني أنا الشمس وهي قمري, تحمل عني صورتي وضوئي وانعكاسي داخلها.”
انتشلني من ركام تداعياتي المتتالية, حين قال لي:
ــ مش عارف أجيبها لك ازاي بس حالتك من ساعتها مش عاجباني وشرودك وتوهانك المتكرر ده وعشان كده أنا رحت بعتلها بحسابها وكلمتها كلمتين بحقك…
اتسعت حدقتا عيني حين أخبرني بذلك واحمرَّ وجهي ورحت أبخ فيه جام غضبي, وقلت له, وأنا أعتدل من مكاني
ـــ أنت كيف تتصرف من نفسك وما تقوليش, وليه تروح تكلمها أصلاً وليه تتكلم عني بحاجة أنا ماقلتش أنك تعملها، كده
عاوز تحطني بموقف شفقة قدامها يعني ولا تشمّتها فيّ مثلاً.. مانت عارف اللي فيها وهي عارفة إنها أذتني, ايه الجديد يعني على واحدة قاسية زي دي !!
حاول تهدئتي, وهو يمازحني, معتذراً لي قائلاً:
ــ خلاص أنا آسف والله, خلاص, روِّق حقك عليًّ, بس حالتك دي مدايقاني, وكنت عاوز أوفق بينكم وترجعوا من تاني،..
صرفت وجهي عنه ورحت أعاود استنادي على الشجرة خلفي،
وبينما أنا أتكئ رأيت العقيد”محمد سامي” قادماً من بعيد تجاهنا فوقفت سريعاً وكأني أصابتني لسعة كهربائية وقد تنبه للأمر صديقي فقام كذلك مثلي، وقفنا على وضع انتباه, أعطيناه التحية العسكرية, ووقفنا أمامه انتباه من حديد,فهو قائد وحدتنا المتواضع الطيب الذي نحبه ونقدره ونحترمه جداً وندعوا له من قلوبنا, ولنا معه مواقف جميلة لن ننساها,
تقدم العقيد أمامنا ليخبرنا أن وقت الطابور سيكون متأخراً عن المعتاد هذه المرة لظروف طارئة وعلينا إعلام الجميع بذلك في الكتيبة وطلب منا أن نُنَظم الصفوف في تمام الساعة السابعة ..
ــ تمام يا فندم , بصوت واحد قلنا له ذلك,
ــ تمام , .. قلتها له, وقد انصرف بعيداً عنا,
راح صديقي بأسلوبه المضحك الذي يحاول جعله مستفزاً, وهو يحادثني بنبرة فيها شيء من السخرية, ممزوجة بالمزاح,
ــ ايه يا حاكمدار الكتيبة مش هتشوف شغلك, وتظبِّط تقفيزتك كويس كده, ولا احنا هنقضيها كلام عن الحب, وهنخيب خلاص.
لم أُبدي له ابتسامتي هذه المرة وقلت له,
ــ ثابت يا عسكري, واتكلم معي بأسلوب كويس عن كده, انتباه يا عسكري يا بيادة, ولا عاوزني أشدك , أكدرك دلوقتي!!
نظر لي متصنعاً أنه حازم وجاد في الأمر, ثم ما لبث أن ابتسم فابتسمت,فضحك, فضحكت , وقد حاولت الصمود فلما ازداد ضحكه, فلم أتمالك نفسي حتى انفجرت بالضحك معه,
ــ لا يعم المسامح كريم , خلينا هنا شوية قاعدين, لسه الوقت بدري على الطابور .
رجعت إلى مكاني المفضل لأسترخي تحت تلك الشجرة, وارفة الظلل, المحببة لقلبي التي آتيها بين الحين والآخر كلما اتسع لي الوقت، وراح هو الآخر يفعل نفس الشئ حينها, سألته سؤالاً, كان يدور بذهني دائماً ولم أجد له إجابة قط,
ــ يا ترى هي سابتني ليه ايه مبررها بعد كل المدة دي وبعد كل الحب والاهتمام اللي شافته مني..؟
تنهدت ورفعت يدي لأعلى ثم قبضتها بقوة مردفاً, مسترسلاً :
ــ اه لو كنت أطولها ساعتها كنت …., طالما هي ستكون لغيري في النهاية, وأبقى مشيت بمبدأ”يا أخدك أنا يا ربنا ياخدك”
أخذ صديقي يغالب الضحك وهو يقول :
ــ ماهو كده كده أنت خدت روحها يا سفاح الحريم يامتوحش, سادي؟!
نظرت له شذرا:
ــ لا دانا هطلع روحك دلوقتي بايدي لو مابطلتش استفزاز.
نهض , يعتدل من سترته, ووقف مكانه وقد تأهب للهرب مني, وهو يقول بخبث:
ــ يابو قلب رقيق وحنين, ياللي عاوز تقتل الحريم.
وقبل أن يلوذ بالفرار قبضت على قدمه بيدي ,وجررته إليَّ وأنا أقول له بغيظ :
ــ اسكت ياللي ” غنى” خزوقتك مرتين, وفي الاخر مانسيتهاش,.
رفس بقدمه يدي وهو يجيبني بغيظ :
ــ أه أنا قلبي طيب ومانستهاش, أما أنت عاوز تقتلها يا مفتري .
ضحكت على أسلوبه معي في الكلام, بينما هو راح ينفض الغبار عن الأفارول الذي يرتديه, وهو يجري أمامي ,
فقلت له بصوت عالٍ:
ــ أبويا دوما كان يقول لي” لازم أحكِّم عقلي, قبل كل شئ, لأن العقل على صواب دوماً, ولا آخذ الأمور بالعاطفة, وخصوصاً مع الجنس الآخر, لأنه زي ما بيقولوا ” النساء حبيبهم من حضر عدوهم من غاب” وماينفعش أعطيهن أمان, فنحن في زمن , انقطع فيه الأمان حتى من الأهل والأقراب, والجيران أبويا كان على حق, وطلع كلامه كله صح, لما قالي هذا الكلام ,
قاطعني قائلاً متصنعاً بصوت حزين, بعدما توقف, والتفت إليّ :
ــ حتى أنا يا ندل ..؟!
أجبته, وأنا ألحق به, وهو يجري أمامي:
ــ ياخي لا تستفزني أكثر من هذا, وتخليني أعمل لك عاهة مستديمة تطلع بيها من جيشك, أقول لك حاجه خلينا ساكتين أحسن
وكان على مرمى حجر منا, بعض الفصائل من العساكر من كتيبة أخرى, كانوا يؤدون تدريبات جري الضاحية, وبصوت جهوري يرددون الهتافات, والشعارات العسكرية, وقد مروا من أمامنا,
“يا جريد النخل العالي
يا مرفرف في العلالي قول لأبويا
وعمي وخالي ابنك بطل الصاعقة يا غالي”
” أنا أنا ابن الصاعقة المصري وحش مقاتل سابق عصري
هفضل طول الوقت أتدرب جندي مقاتل مصنع مصري،
الصاعقة اتعملت للرجالة جندي ضعيف وسطنا ده محالة،
هنطلعه على طول من بينا أحسن ما يكون بينا وعالة ”
الجيش هو العمود الفقري للبلاد, وجيشنا العظيم الذي أنا فيه, والحمد الله, من أعظم جيوش الأرض, جعلني انساناً أخر , صنع مني رجلاً , قويً , يستطيع أن يتحمل المسؤوليات, فقد صرت صلباً قوياً, وقلبي متحجر المشاعر, لا يحرك ساكناً إلا لأهلي , وبلدي تلك التي أحببتها, ورحت أغني لها, وأردد النشيد,
“بلادي بلادي .. لكِ حبي وفؤادي” ,
أما تلك التي باعتني, وذهبت لحال سبيلها, وتركتني, ونسيَت أنها قد أخذت قلبي معها, وسحبت روحي, وتركت لي ذكريات لم ولن تفارقني أبداً فلماذا لا أنساها ولم أتخطها كما تخطتني هي فقد حفرت قبراً ورمت فيه كل الذكريات الجميلة التي كانت بيننا والتي ما زالت حية بداخلي ؟؟؟؟؟!!!!!.
” لعل حبي لها كان أعوراً, أعرجاً, وربما كان من طرفٍ واحد, من طرفي أنا وحدي، لكن كان صادقاً, نعم أنا وحدي، أنا الذي أحببتها, وأتلوع شوقاً إليها الأن, وأموت حباَ لها واشتياقاً, ووحشة تتصدع منها الجبال , وتئن لها القلوب, وتحن لها المشاعر..
” زينب” حبيبتي قضيت معها بسنتين تقريبا كانت من أجمل سنين عمري, كان عمراً طويلاً, وما كان يفصلني عنها وعن زواجي منها غير الظروف القاسية, اللعينة,…
بعد أن أتممت تخرجي من الكلية، التحقت بالجيش لأداء الخدمة العسكرية, وانقطعت أخبارها عني.. ربما أتاها من هو أجدر بها مني, وتحينت الفرصة, ولم تخبرني.. أو ربما تبدلت مشاعرها نحوي, ومالت عن كفة ميزان الهوى, وما مالت كفتي عنها،.
حاولت وحاولت جاهداً نسيانها, ولكني فشلت, فشلاً زريعاً, قلبي ما زال في غيه وفي ضلاله القديم, ما زال يحبها, ويريدها، لكنها تبخرت ورحلت ولم تعد, هانت عليها العشرة, فتشت عنها في كل مكان, فلم أجدها..
أتاني صوت صديقي بجانبي يسحبني مجدداً من تداعياتي, وهو يقول لي :
ــ تعرف إنه لما حاولت أوفق بينكم صدتني وبعدها بيومين كانت منزلة منشور ” الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات”
والظاهر إنها اتخطبت أو اتزوجت, وانهالت عليها التبريكات والتهنئة, فتيقنت أنها كما أخبرتك.
شعرت بغصة شديدة, ابتلعت ريقي بصعوبة, وكأن شوكة كبيرة داخل حلقي، حين سمعت منه هذا الكلام, صعقت لما سمعته منه، لم أجادله, ولم أناقشه عن تفاصيل الحديث, كما أفعل معه دائماً، ولم أُبدي له أي ردة فعل مني أمامه, لكن كانت جهنم تميز من الغيظ بداخل أعماقي، حتى وإن كنت أظنه يقول ذلك كي أستطيع نسيانها هذه المرة وأتخطاها ..
كورت بصقة كبيرة في فمي , وقذفتها على الأرض بعيداً عني, وكأنني أرميها عليها, وعلى الدنيا والظروف الظالمة,
نظرت لساعة معصمي الأيسر, ونا أنظر لصديقي المسجى بجواري على الأرض, وهو نائم, كان يضع حلفة صغيرة خضراء بفمه ،قشة صغيرة , ركلته, برفق, وقلت له بصوت جهوري منتهزاً كوني حاكمدار الكتيبة لأول مرة في حياتي :
ــ انهض , واجمع سريعاً يا عسكري, على أرض الطابور, الساعة دخلت على السابعة مساء, واعمل حسابك انك متكدر على التأخير, قلتها له , وانصرفت, وتركته مبهوتاً مما سمع ، فقام وتبعني , وأنا أمشي تحت حبات المطر الخفيفة التي راحت تنزل من الغيوم الملبدة المختزنة بزخات المطر لتغسل كل شيء, وكل ما بداخلي من كلام , وتساؤلات, وعلامات تعجب, وعلامات استفهام كبيرة., ……….