كتاب وشعراء

شِباك مُحكمة/للأديب المصري أحمد نصر الله

الشمس على حالها، تمارس عملها دون كلل أو ملل.
لم يحدث ما يجعلها تغيّر روتينها المعتاد، أو تفكّر جديا في الاعتزال، أو تقديم أوراق استقالتها.
إنها مستريحة، مستسلمة؛ وأحيانا — وبطريقة غامضة — يصنع الاستسلام هالة من الطمأنينة تركن إليها الحواس، حين يكون من المربك تغيير المسار أو البحث عن بديل لهذه الدائرة التي لا يمكن الفكاك من شباكها المحكمة، سواء على مستوى الحزن أو درجة الألم.

وكذلك الأشجار، لم تفكّر في الهجرة أو النزوح إلى أقرب شاطئ لقضاء عطلتها الصيفية،
ولا يعنيها كتابة تجربتها مع التصحّر، أو سيرتها الذاتية مع آذار،
أو معاناتها من النمل الذي يتسرّب إلى تاريخها المتجذّر في ضمير الماء المختلط ببكاء الطين المتشابك مع حيرة تموز.

والقمر، هذا الضيف العزيز، يهمس بالطيب لكل من يقدّم نذوره أو يدفع الجزية عن أسرى الحنين، باسماً في وجه الريح، غير عابس أمام قرارات مجلس الأمن، وبلا اكتراث بكل التهديدات التي تصدرها حركات المدّ والجزر.

والعطر على حاله، يكتب الرسائل لمن اشتدّ به الشوق أو غالبته الهموم؛ وهي وظيفته التي تقلّدها عن طيب خاطر.
فلم يقامر مرّة بحلوى الربيع، ولم يراهن على حذاء سندريلا في الليلة الموعودة، ولم يتسوّل القبلات من فم تشرين.

كل شيء في هذا الكون على حاله، بنمطيته المعتادة وتكراره السرمدي،
لكن داخلي يرتجف؛ كأن تغييرا هائلاً حدث في النواميس، حدثاً غير عادي قلب الموازين، وألقى بالمألوف خارج مداراته المعتادة.

شيء يجعل من الشمس سرابا لا يمكن التعويل عليه، ترتعش بردا كلما فتحت بريد رسائلها المنسي.
ومن الشجر سربا من الجراد يعاند كل ما يمتّ للأخضر بصلة، محدّقا في صوته المتشقّق ،بكل ما يخامر طريقا فقد في زحام الأمنيات خطواته.
ومن القمر كهلا لا يجيد سوى الثرثرة العقيمة التي تضع الليل في مواجهة مرّة مع مرآته.
ومن العطر سحابة يأس لا تكفّ عن العويل، شاطبة النوارس من قاموس البحر.

شيء ما في هذا العالم ليس على ما يُرام،
شيء يجعل من وجهي خارطة تمشي عليها جيوش الحزن، ومن أبجديتي صمتا يتساقط في جوفه العميق كل زبانية الغضب اللدود، ومن ضوئي مرتعا خصبا للبوم والأفاعي.

شيء ما حدث، ألب العالم على ذاته؛ فالتهم أغنياته البريئة، وبحاره المسالمة، ونفى جزره الوديعة، ومحا تاريخه الباسم، وألقى بتعويذة الموت على كل ما يمكنه أن يعيد العالم لطفولته الأولى.

هذا لأنك،
أيتها المسكونة بدهشة الأعياد، المكتملة بذهول كانون، المعجونة بسحر الأقدمين، المتفرّدة بكل أسرار الأنوثة، المنسوجة من عبق الرقة، تركتِ مقعدك فارغًا في قلبي، وتاهت أنفاسك عن غابات صدري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى