مَرَاثِي النَّهْرَيْنِ الْخُرْسَاء…بقلم حيدر البرهان

هَذِهِ أَرْضُ الْآلِهَةِ الْأُوَلِ،
حَيْثُ كَانَ الْمَاءُ وَالطِّينُ يَلْتَقِيَانِ لِيَنْحَتَا أَوَّلَ حَرْفٍ فِي كِتَابِ الْوُجُودِ.
الْآنَ، نَحْنُ الظِّلُّ الَّذِي تَرَكَهُ الْمَاضِي عِنْدَ مَغَارِبِ الْحُضُورِ.
الْغُرَبَاءُ جَاءُوا بِمِرْآةٍ مُعوَجَّةٍ،
فَرَأَيْنَا فِيهَا وُجُوهًا غَرِيبَةً تَدَّعِي أَنَّهَا نَحْنُ.
صِرْنَا نَعِيشُ عَلَى هَامِشِ ذَاتِنَا،
نَلْبَسُ أَقْنِعَةَ الْمَوْتِ الْجَمِيلِ،
وَنَتَعَلَّمُ لُغَةَ **الجَوْعِ المُقَنَّع**.
الْخِيَانَةُ صَارَتْ فَنًّا لِلْبَقَاءِ،
وَالصِّدْقُ ضَرْبًا مِنَ الْوَهْمِ الْقَدِيمِ.
حَتَّى الضَّمِيرُ صَارَ غَرِيبًا فِي مَدِينَتِنَا الْمَحْطَّمَةِ.
أَيْنَ أَصْوَاتُ الْأَسْطُرْلَابِ وَالسَّمَاءِ؟
أَيْنَ حِكْمَةُ الْأَوَّلِينَ الَّتِي كَانَتْ تَسْقِينَا مِنْ نَهْرِ الْعَقْلِ؟
هَا هُمْ أَبْنَاءُ أُورُوكَ وَكِيشَ وَبَابِلَ،
يَسِيرُونَ كَالظِّلُولِ خَلْفَ أَصْوَاتٍ لَا تَنْتَمِي إِلَى الْخَابُورِ وَلَا إِلَى صَوْتِ الرِّيحِ فِي أَعَالِي السُّومَرِ.
لَكِنْ..
هَلْ يُمْكِنُ لِلنُّورِ أَنْ يَمُوتَ تَحْتَ الرَّمَادِ؟
هَلْ يُمْكِنُ لِقَلْبِ جَلْجَامَشَ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَنِ النَّبَضِ؟
إِنَّ تَحْتَ هَذِهِ الرُّؤُوسِ الْمَحْنِيَّةِ،
تَخْتَبِئُ أَنْدَادُ الْآلِهَةِ الْقُدَمَاءِ.
هَذَا الِانْهِيَارُ لَيْسَ إِلَّا مِحْنَةَ الْكَيْنُونَةِ،
لَحْظَةَ الصَّمْتِ قَبْلَ أَنْ تَوْلَدَ أُنْشُودَةٌ جَدِيدَةٌ.
سَيَأْتِي يَوْمٌ تَنْتَشِرُ فِيهِ رَائِحَةُ الطِّينِ الْأَصِيلِ،
وَتَنْهَضُ فِيهِ الْكَلِمَاتُ مِنْ مَرَاقِدِهَا فِي أَقْدَامِ السَّوَاعِدِ.
سَنَبْنِي مَدِينَةً لِلضَّمِيرِ،
مِنْ مَاءِ دَجْلَةَ الْقَدِيمِ،
وَمِنْ صَبْرِ الْفُرَاتِ الْخَالِدِ.
سَنَكْتُبُ مَلْحَمَتَنَا بِحُرُوفٍ لَا تَعْرِفُهَا أَبْجَدِيَّةُ الْغُرَبَاءِ.
لأَنَّنَا أَبْنَاءُ الْأَنْهَارِ الْأَزَلِيَّةِ،
وَنَحْنُ الْوُرَثَةُ الْحَقِيقِيُّونَ لِصَوْتِ الْأَرْضِ الْأَوَّلِ.
سَنَرْوِي قِصَّتَنَا لِلْعَالَمِ:
كَيْفَ تَنْبُتُ زَهْرَةُ الْأَمَلِ مِنْ بَيْنِ شَقَّي الصَّخْرِ وَالْحُطَامِ.