أيلولُ عاد…بقلم سليمان أحمد العوجي

أيلولُ عاد…
الغابةُ التي
دفنت للتو ذراعَيْها
تتذكَّرُ العِناقَ الأخير.
المواسمُ تتبرَّأُ من عشّاقِها،
وتُحرِقُ رسائلَها.
بريدُ الفصولِ
ضلَّلَهُ الدخان.
أيلولُ عاد…
في المحطَّة:
شجرةٌ وحيدةٌ ناجيةٌ
استقبلَتْهُ، وقالت:
«تأخَّرتَ كثيرًا،
العيدُ مرَّ من هنا،
وزعَ قبورًا فاخرةً
وقلائدَ قَهرٍ».
قُبَّرةٌ خجولةٌ
تدعوهُ لمأدبةِ الرماد،
ولحُزنٍ صريحٍ
كحَقِّ الأنبياء.
أيلولُ عاد…
يسألُنا:
أحقًّا أن شهرزادَ الغابةِ
لم تَصمُتْ عن الكلامِ المُباح
حتّى قُطِعَ شهريارُ
رأسَ خُضرتِها؟
أيلولُ عاد…
كطفلٍ بلا أهل،
ينامُ على رصيفِ الخريف.
لا أُمٌّ من سنديان،
ولا إخوةٌ من صَنوبر.
الكلُّ مات
بنيرانٍ صديقة.
أيلولُ عاد…
والأرضُ تتنكَّرُ له
كجنديٍّ عائدٍ
من خيانةٍ لا تُغتَفَر.
أيلولُ عاد…
وما استطاعَ أن يشتري
لحبيبتِه ابتسامةً.
كلُّ ما في جيبِه
يكفي لإسوارٍ من وَداعٍ،
وخلخالٍ من رماد.
أيلولُ عاد…
يجرُّ وراءهُ أقدامَ الغيمِ المُثَقَّلة.
يمرُّ على وجوهِنا
كقافلةٍ من حُجّاجِ العَتمة.
يفتشُ عن نافذةِ ابتسامتِك،
فلا يجدُ غيرَ جُدرانٍ بأقفالٍ،
وأبوابٍ تُدرِّبُ صَريرَها
على النَّواح…
ومساءٌ صار قفصًا
تُربّي الغابةُ فيه
طيورَها السوداء.
أيلولُ عاد…
أمّا أنا،
فسأُقايِضُ هذه البلادَ
بغُربةٍ لا تعرفُ لغةَ ألمي.
لا تُجيدُ فكَّ يباسِ روحي،
ولا تدري أنّ الذي ينتفضُ في كفّي
هو قلبي الجريح.
وأنّ مشرطَ الرحيل
شقَّ خاصرةَ الحنين.
سأُغلِقُ خلفي بابَ اللغة،
وأتركُ قصائدِي عند عتبتِها
كأطفالٍ تأخَّر آباؤُهم في الحرب.
أيلولُ عاد…
هذه البلادُ التي ملأت جيوبِي
حنينًا، وسكاكرَ دعاء…
اليومَ تدَّعي الخَرَف.
كلّما وقفتُ ببابِها أطلُبُ شُربةَ ماء،
تشُدُّ على يدي بخناجرَ مسمومة.
أُقسِمُ يا أيلولُ:
اقتسموا الأنهارَ ليملؤوا جرارَ السَّراب،
وتركوني لملحِ وَحدتي.
أيلولُ عاد…
أجئتَ لتُعلِّقَ قلبي
على مِشجبِ الفقدِ
كمعطفٍ قديمٍ نسيَهُ مسافر؟
أم جئتَ لتُعلِّمَني
أنّ الغُربةَ ليست مدينةً بعيدة،
بل مقعدًا فارغًا
إلى جواري؟
أيلولُ عاد…