حمزه الحسن يكتب : موت مفهوم الشعب

ــــــ في أوقات التداعي سيظهر مثقفون قلائل يقاومون الانحراف العام ويلوحون وسط الانهيار في نظر العامة كحفنة مجانين” ــــــ بيل أشكروفيت، ما بعد الكولونيالية.
منذ احتلال العراق تعرض مفهوم “الشعب” للتصدع والطرق والثغرات والسحق والتمزق حتى توقف بعد سنوات ولم يعد هناك في العراق ولا في دول عربية تعرضت للعواصف نفسها، مفهوم” الشعب” في تطبيق حرفي للسياسة الاستعمارية القديمة” فرق تسد”.
بكل وضوح لم نعد شعباً كما في الماضي متفقاً في الأقل على ثوابت كوحد الأرض والثروة والسيادة والاستقلال السياسي في القرار والمصير وفي اختيار النظام السياسي وغيرها من العوامل التي تربط الشعب.
هذه العوامل لم تعد من صنع” الشعب” الذي تحول الى حشود وولاءات وجماعات ومنظمات وقوى وحواشي واتباع بل من صنع قوى خارجية من خلف ستار وترك الدمى تتصرف في الواجهة لاجل الهيبة امام الناس مع منحها حرية التصرف في شؤون محلية ادارية غير سيادية .
صارت القرارات السيادية المتعلقة بالسلطة والثروة والقرارات المصيرية من صنع” السفارة الأمريكية” و” القواعد العسكرية الــــ 12″ و” مكاتب المخابرات الدولية” و”دول الخليج” و” دول الجوار” و” دول التحالف” والخ وصار العراقي متفرجاً على صراع الثروة والسلطة .
لم يعد لدينا شعب ولو استعرنا لغة أميل سيوران :
” لأننا فشلنا في خلق إنسانٍ يفكّر، لم يتكوّن لدينا شعب، بل تشكّل لدينا جمهور، جمهورٌ مصفق، وجمهورٌ لاعن، يصفّق مرة، ويلعن مرة،
لكنه لا يفكّر”،
والحشود التي تصفق مرة وتلعن مرة لا تحتاج التفكير لأن بدله حلّ الولاء والولاء يلغي التفكير، الولاء يعني عدم التفكير حسب جورج أورويل. ثم ما حاجة الحشود للتفكير وهناك القائد والاسطورة والشيخ والملهم والسكرتير العام والكاهن والولي الصالح وقارئ كف الحي من يفكر بالإنابة عنها؟
بذور ظاهرة الحشود تكونت قبل الاحتلال من قبل ما يسمى الأحزاب الشمولية أو الثور ــــــــ ية جميعاً التي مهدت الطريق للمحتل لتمزيق غير الممزق وسحق ما لم يسحق والقضاء على مفهوم” الشعب” وتحويله الى” جمهور” أو” حشود” متناقضة متعادية متصارعة مهددة بعضها ــــــــ يمكن بكل بساطة مشاهدة أي حوار سياسي على شاشة عراقية لكي نرى كمية الأحقاد والصراعات والتهديد بالخراب والانتقام بلغة سوقية بذيئة تتداخل فيها لغة السب والشتم الزقاقية تداخل أنياب الكلب بقشرة سياسية باهتة.
صار المتحدثون في العراق يتحدثون عن” جماعة الغربية” اي الجزء الغربي من العراق وعن جماعة” الجنوب” وجماعات” الشمال” من غير تداخل جماعات ومنظمات وقوى واحزاب بين هذه الكيانات تعمل لمصالح خاصة بها.
جماعة محسوبة على” المحور التركي” وجماعة على” المحور الايراني” وثالثة” المحور الخليجي” ورابعة” المحور الأمريكي” ثم ظهرت جماعة” المحور الاسرائيلي” من غير المحاور المحلية؛ وأما أمثالنا من الخارجين عن هذه التصنيفات فلقد احتاروا في تصنيفنا وصار من حق أي خارج من علبة نفتالين منحنا ما يرغب من صفة. فلا نحن عملاء ولا نحن دعاة طائفية ولذلك من الافضل احالتنا الى المصحات العقلية كمجانين في مجتمع تحول الجنون فيه الى عقيدة والخبل الى تقاليد والهلوسة الى وجهة نظر.
وحسب مقاييس اليوم في الشطارة فمن يرفض المشاركة في وليمة النهب العام ومن يرفض أي منصب ووظيفة وامتيازات، فلا شك انه مجنون فعلاً وسط جنون الحشود.
في بعض لحظات التاريخ تقع الشعوب الخارجة من قهر طويل في ما يسمى” الأوهام الشعبية الاستثنائية وجنون الحشود” عنوان كتاب تشارلز ماكاي ونشر عام 1841 ولا يزال حتى اليوم مرجعا في السياسة والاقتصاد وعلم الاجتماع والنفس.
لكن الحشود لا تعرف ماذا سيحدث في اليوم التالي لان الزمن تجمد عند لحظة واحدة هي الحاضر، وعدوى العواطف يتحول الى قرارات وتصورات عن مستقبل وهم وتدفع العدوى الجماعية الجمهور نحو خيارات لا يعرف عنها شيئاً ليكتشف يوما ان المسافة بين الواقع وبين الخيال مسافة بين شاطئ وآخر وتبدأ من جديد لعبة جديدة.
كان المفكر والروائي فرانز فانون منذ أوائل الثلاثينات قد حذر من ان الشعوب الخارجة من قهر طويل ، يجب أن تنعطف، حالاً، نحن بناء مؤسسات الديمقراطية، وعكس ذلك ستتجه نحو الفاشية وستعيد انتاج نظام جلادها للتعويض عن عار معتق واذلال طويل،
وذهبت تحذيرات فانون ادراج الرياح وكانت النتيجة: ولادة النازية والفاشية وكلاهما قدما مشروعهما كانقاذ ومخلص لكنه انتهى بالخراب والدمار.
الغريق لا يهمه من المنقذ لحظة الغرق سواء كان دولفينا او قرصانا او كاهنا او سفاحا بل تهمه فكرة الانقاذ ،
لكن سؤال الغريق السياسي مختلف: ماذا بعد الانقاذ؟
وهو ليس سؤال الحشود المستنزفة لانها غارقة في أوهام وأحلام وكوابيس الماضي لكنه سؤال المثقف، وقد قدم لنا التاريخ امثلة لا حصر لها عن ايام ما بعد الغرق.
ان يندفع الناس نحو هذا النوع من الجنون المبرر ، أمر مفهوم ، لكن أن يندفع مثقفون خلف الحشود بلا صورة واضحة عن المستقبل ولا كشف التعقيد المركب للاعصار ، فهي خاصية معروفة في المثقف العربي، الذي لم يحدث مرة واحدة ان اخبرنا عن صورة مستقبل لانه اما مؤدلج او يسقط رغباته على واقع جديد لا يتطابق مع الحقيقة او يفكر من منطقة الجرح.
لا تعثر على هذه” الاحتفالية” لدى المثقف الغربي الذي يضع كل التوقعات والمخاوف والهواجس عن وعي عميق بطبيعة الازمة وتعدد الاطراف والمصالح والنوايا الخفية التي كجبل الجليد لا يظهر منه غير الرأس.
باستثناء المثقف العربي الذي يتحدث عن اعصار سياسي عصف بالمنطقة بلغة وثوقية جازمة حازمة مع ان لغة السياسة لغة احتمالات،
كما لو انه يتحدث عن طبخة عشاء او برنامج سهرة قادم او حفل موسيقي:
من أين تأتي الثقة لهؤلاء ؟ من أين يأتي هذا” الايمان” بأن اللغة هي الواقع؟
الثورة حسب التوصيف الدقيق لـــ حنة أرندت في كتابها” الثورة” تفرق بين العصيان المسلح والاضراب والاعتصام والانتفاضة وبين الثورة:
” ” إن الثورة تعني ان مسار التاريخ قد بدأ من جديد فجأة، وبأن قصة جديدة تماماً، قصة لم تروَ سابقاً ولم تعرف قط، هي على وشك الولادة”.
القلوب الغليظة الفظة لا تصنع ثورة أبداً بل مذبحة وتصفية حسابات، وبموت مفهوم الشعب كقوة حفاظ على الثوابت الرئيسة، وتشرذمه وانقسامه وصراعاته، لم يعد لدينا سوى حشود موالية وحشود معادية وحشود لا تدري شيئاَ وتمضي مع التيار، والتيار نفسه لا يعرف إلى أين في بلاد صار فيها الانسان حراً في المشي والقلق والتوقع والانتظار والهذيان.
ــــــــــــــــــــ يشير مصطلح جنون الحشود الى السلوكيات التي تظهر على الافراد عند الانخراط او الانتماء الى جماعة وتختفي كامل شخصيتهم السابقة وتذوب في هوية الجماعة وعادة لا يكون ذلك عن خيارات واعية بل البحث عن هوية فردية في جماعة وعن مكانة وهذه الظاهرة تتواجد في كل مكان واذا تبنت جماعة عقيدة او اسطورة او خرافة او اكذوبة سيتبناها الافراد بسبب الولاء لا بسبب التفكير. كل مذابح التاريخ قامت بها حشود بعناوين مختلفة.