ظاهرة المزج بين العربية الفصحى والدارجة في المتن السردي الروائي: رواية الكاتب التونسي أ-فوزي النالوتي “صهيل الذاكرة..وحديث الروح”-نموذجًا ….بقلم محمد المحسن

تعد ظاهرة المزج بين العربية الفصحى واللهجات الدارجة في المتن السردي الروائي من أبرز السمات الأسلوبية التي ميزت الرواية العربية الحديثة،حيث يعمد الكاتب إلى خلط المستويين اللغويين لتحقيق أهداف فنية وجمالية وتواصلية. هذه الظاهرة تعكس محاولة الروائيين للتوفيق بين متطلبات الأدب الرصين وضرورات الواقعية والتعبير عن بيئات الشخصيات وثقافاتها،فاللغة الروائية هي المادة التعبيرية الأساسية التي ينقل عبرها الكاتب أفكاره ويشكل عوالمه الفنية.كما أنها تعد وعاءً للفكر وأداة للتخاطب والتواصل بين أبناء المجتمع.وقد تطورت دراسة اللغة الروائية من المقاربات البلاغية التقليدية إلى المقاربات الأسلوبية الحديثة التي ركزت على الخصوصية النوعية للرواية،خاصة مع أعمال الفيلسوف واللغوي الروسي ميخائيل باختين-1- الذي ميز بين الرواية المنولوجية (أحادية الصوت والإيديولوجيا) والرواية البوليفونية-2-(متعددة الأصوات واللغات)..
إن ظاهرة المزج بين العربية الفصحى والدارجة في المتن السردي الروائي تعد واحدة من أبرز السمات التطورية للرواية العربية المعاصرة. فهي تعبر عن محاولة الروائيين للتوفيق بين الأصالة والمعاصرة،وبين المحلية والعالمية.ورغم الإشكاليات التي تثيرها،فإنها تظل أداة فنية مهمة لإثراء النص الروائي وجعله أكثر قربًا من واقع المجتمع وتعددياته.ولا بد للروائي أن يتعامل مع هذه الظاهرة بوعي ومسؤولية،بحيث لا تضعف اللغة ولا تفقد النص روحيته الأدبية وجماليته.وقد أبدع الكاتب التونسي فوزي النالوتي من خلال روايته الموسومة ب” صهيل الذاكرة..وحديث الروح” في المزج بين العربية الفصحى والدارجة في المتن السردي الروائي مما عكس أسلوب فني عزز الواقعية،منح الشخصيات مصداقية،كسر الرتابة التقليدية للغة،وأضفى بالتالي حيوية وواقعية لنصه الروائي.هذا الأسلوب في الكتابة الروائية الذي توخاه الكاتب التونسي ( أ-فوزي النالوتي)،سعى من ورائه إلى محاكاة الواقع اللغوي للمجتمع،حيث تتعايش الفصحى كلغة رسمية وكتابية مع اللهجة الدارجة كلغة حياة يومية.وهذا التعايش فرض على الروائي فوزي النالوتي أن يعكس هذه الثنائية في نصه لتحقيق مصداقية التصوير،مستخدما كما أشرنا المزج بين اللغتين كأداة فنية عززتها مهارته واختياراته،وتجلت بوضوح في الحوارات مما أضفى الصدق والواقعية على متنه السردي دون تشويه النص وإضعاف تماسكه الفنّي.” المشرب البائس ( قنارو) مزدحم بالرواد البائسين( فاضيين شغل) وحيد أنا ( مانيش فاضي شغل) أحملك بكل تفاصيلك المسكرة،من مفارقة الجمال أن في الرداءة تتجلى صور الجمال ! بائع متجول سعيد بيوم الخميس( نهار سوق وتعكعيك والعط كاين)…الهمسات والغمزات على الحرفاء السذج ( نهار تغربيز )..بمعنى ” يمشي الجافل ويجي الغافل”..
هذا الإستخدام البارع ل”هجنة لغوية” مزجت بين الفصحى والعامية،مكن الكاتب من كسر الصورة النمطية للغة وساهم في تحديث خطابه الروائي.
وهذا المزج اللغوي،أثرى النص الروائي وجعله أكثر حيوية وواقعية،وساهم أيضا في تجديد اللغة الأدبية وتحريرها من القيود التقليدية..”عديدة هي الخيانات،سأخبر الله حتما بها..-/من غير ما اتخبرو في بالو بكل شيء../ ما فيباليش الي أنا في بالي../ نحكي على الله في بالو../ ما فيباليش ” أنا الحق”
إن استخدام فوزي النالوتي للعامية في روايته “صهيل الذاكرة..وحديث الروح” ليس عجزاً عن الكتابة بالفصحى البحتة (فهو كاتب متمكن من اللغة)،بل هو خيار جمالي وإيديولوجي واعٍ.إنه يسعى إلى خلق لغة روائية جديدة تكون “لغة ثالثة”،هجينة،قادرة على التعبير عن تعقيد الواقع التونسي والعربي بكل تناقضاته،حيث تتعايش المقدسة (الفصحى) والدنيوية (الدارجة)، والتراثي والمعاصر،والمحلي والعالمي.
هذه الظاهرة تجعل من روايته وثيقة أنثروبولوجية بالإضافة إلى كونها عملًا فنيًا،فهي تسجل لغة الشعب وتقاليده وأمثاله في لحظة تاريخية معينة،مما يمنحها قيمة تتجاوز المتعة الأدبية إلى التوثيق الثقافي.
لكن،قد يشكل النص الذي تمتزج فيه الفصحى بالدارجة التونسية عائقاً أمام قارئ من المشرق العربي أو من غير المطلع على الثقافة التونسية،مما قد يحد من انتشار العمل.كما أن عملية المزج ما لم تكن محكمة ومدروسة،يمكن أن يتحول النص إلى خليط غير متماسك ينفر منه القارئ بدلاً من أن يجذبه.غير أن النالوتي،لم يقدم العامية كـ “زخرفة” سطحية،بل نجح في ادماجها عضوياً في نسيج النص.وهذا ما يحسب له،بتميّز واضح..
على سبيل الخاتمة :
من المؤكد أنّ الرّاوي عموما،أو الوسيط الذي ينقل الحكاية إلى القارئ،أمر بالغ الأهمية في كل سرد، بل إنه سمة نوعية تميّز السرد عن غيره من أنواع الأدب،هذا ما يؤكده شتانزيل،الذي يؤكد ايضا أنّ كلّ ابتكار في فن السرد عبر التاريخ،وأنّ كلّ الروايات الكبرى-من ترسترام شاندي إلى يوليسيز ..-3- إلخ،قد أولت عناية خاصة لهذا الوسيط الناقل للحكاية،وركزت كل ابتكارها فيه.غير أن لكل كاتب طريقته في العناية بالراوي أو الناقل أو الوسيط.وليست مسألة الراوي مجرّد مسألة من مسائل الشكل يعنى بها النقاد الشكليون أو علماء السرد،بل هي عنصر من أهم عناصر السرد الحاملة للمعنى بذاتها،إنّها العنصر المرن المراوغ الذي يقف على الحدود بين العالم الأدبي المتخيل داخل القصة،والعالم الإجتماعي الثقافي خارج القصة.
في هذا السياق،وقفت بنا رواية-النالوتي-( صهيل الذاكرة..وحديث الروح) التي جاءت موزعة على شكل ” غرف” أمام تحليل لأعماق الأشخاص وكشف لرقيق مشاعرهم وتوغل في ثنايا واقع ملتبس برؤية منهجية واعية.في النص كذلك تركيز على الزمن النفسي وتوظيف لتيار الوعي بتداخل الإسترجاع بالإستحضار مع توهج مثير لأسئلة عبر حوارات ذاتية وشخصيات مركبة تؤدي-في بعض الأحيان-أدورا غير عادية،ساعدت على إدهاش المتلقي،للوصول به إلى نهايات السرد الروائي المفتوح الذي يطل على تأويلات غير محددة.ومن هنا حمل-فوزي النالوتي-على الذائقة الفنيّة التقليديّة دون هوادة وأرسى دعائم مشروع تحديثيّ في الكتابة بكلّ أبعاده ومستوياته.مشيرا في سياق سرده الروائي،وبأسلوب مبطن إلى أن الفصحى تقليدياً هي لغة السلطة (السياسية والدينية والثقافية) وبإدخال العامية إلى نصه الروائي،كسر هذه السلطة ومنح الشرعية للغة الشعب،لغة الحياة اليومية،ورفعها إلى مستوى الأدب
يمكننا القول أخيرا:إنّ الأدب ليس قول ما يرد على شاشة الذاكرة وتنبض به دقّات القلب،ليس مجرّد تلاعب بمفردات وشخصيات يحركّها الكاتب،إنّها كل ذلك معجونا برؤية خاصة ثاقبة،وذوق سام،وبأسلوب لا يشير إلا إلى صاحبه،في تلاحم خلاّق بين الإحساس والإدراك لمجمل مفاصل العملية الإبداعية التي تجسّد نبض الحياة وهذا ما تمكّن منه المبدع”أ-فوزي النالوتي”بتميّز لا تخطىء العين نوره وإشعاعه..
ولنا عودة إلى منجزه الروائي في مقاربة أخرى..
محمد المحسن
هوامش
1-ميخائيل باختين (1895-1975) فيلسوف ولغوي ومنظر أدبي روسي (سوفييتي).ولد في مدينة أريول. درس فقه اللغة وتخرج عام 1918. وعمل في سلك التعليم وأسس”حلقة باختين” النقدية عام1921.
2-الرواية البوليفونية هي نوع روائي يعتمد على تعدد وجهات النظر والأصوات السردية،وتتخلص من هيمنة صوت الراوي الأوحد لتقدم الواقع من منظورات مختلفة ومتراكبة،وهي عكس الرواية الأحادية الصوت (المونولوجية) التي تفرض رؤية واحدة.يرجع مصطلح “البوليفونية” إلى الناقد الروسي ميخائيل باختين،وهو مستوحى من الموسيقى حيث تعني تعدد الأصوات الموسيقية المتزامنة.
3-من تريسترام شاندي” هي إشارة إلى رواية الكاتب الإنجليزي الأيرلندي المولد لورانس ستيرن، وهي عمل فكاهي تجريبي يُعتبر من الروائع الأدبية،بينما يشير “يوليسيز” إلى رواية جيمس جويس الشهيرة التي تعد من أهم أعمال الأدب الحديث،وتربط بينهما تقنيات السرد التجريبي والتدفق الواعي للأفكار،حيث تُعد “تريسترام شاندي” مقدمة لرواية “يوليسيز” في تطور السرد الروائي.
باختصار،الانتقال من تريسترام شاندي إلى يوليسيز هو رحلة من التمرد المضحك على الشكل الروائي في القرن الثامن عشر إلى الثورة الحداثية الشاملة على الشكل والمضمون في القرن العشرين.