كتاب وشعراء

حين أقول اسمكِ…..بقلم محب خيري الجمال

ضوء،
هل تذكرين حين كان الليلُ يُفركُ كالعجين بين يديكِ؟
حين كان الدخانُ يتصاعد من وجهي لا من السجائر؟
كنتِ تبتهجين لأن العالمَ ما زال يحترق،
وكنتُ أختنق… بهدوء.
اليوم، كل ما في صدري ليس سوى بئرٍ مجوّفة،
حفرتها الوحدة بأسنانها اللبنيّة،
حتى باتتْ تكشف عظامي للشمس، ولا تلسعني.
أطبائي يعانون من نقصٍ في الشعر،
لهذا لم يفهموا أن قلبي ليس عضلة.
قالوا لي بلغة المستشفيات:
كل خليةٍ فيك، ترتب الآن حقائبها.
ضحكتُ كمن سقط من الطابق الأخير،
ونجا بكسورِ ذاكرة فقط.
ضوء، أنا لا أكرهكِ، لكنني أختنق منكِ.
وجهكِ يشبه الطين الذي أغرق نبيًّا، وابتلع دعاءه.
صوتكِ يصلني كالأذان في مدينةٍ أُغلقت مساجدها،
وفتحتْ أبوابَ المجازر.
أكره الشعر، وأتلذّع به
كما يلعق المجنونُ حافةَ الشفرة.
أحب أن أقرأه ميتًا على الورق،
وأكرهه حين ينهض حيًّا في حنجرتي.
الشعر، يا ضوء،
هو المرض الوحيد الذي لا يُميت،
بل يُطيل لحظات النزيف فقط.
ضوء،
أنا لا أشتهي الوطن، بل أتقيأه كل مساءٍ في دلوٍ صغير،
ثم أغسل وجهي بأنينه.
هل تعرفين ماذا يعني أن تعود من الحرب وفيك بقية منك؟
لا أنت شهيد، ولا ناجٍ. بل بقايا،
وطنٌ يصرخ داخلك ويطلب أن تسكته.
في مدينتي يا ضوء،
الرصاص لا يصيب إلا الصمت،
وكلّ من كتب سطرا واحدا عن النجاة، اختفى.
ضوء،
هل تعلمين كم مرّة مات الشعراء قبل أن يكتبوا؟
أنا متُّ ثلاث مرات:
مرةً حين نادتني القصيدة ولم أجب،
ومرةً حين كتبتها ولم تفهمني،
والمرة الأخيرة،
هي الآن وأنا أخبركِ أنني لن أكتب بعد اليوم.
أعدكِ، لن أكتب. سأترك الورق ليبيضَّ وحده،
كوجه أمٍّ دفنت أولادها بالعكس.
وسأكتفي بتسجيل أنفاسي المتقطّعة
على آلة تسجيلٍ مكسورة، كي لا تُنسى الخسارة.
ضوء،
أنا لا أقول هذا لأنني دراميّ،
ولا لأنني شاعر مهووس بصرامة النهاية،
بل لأنني انتهيت. انتهيت صدقيني
لذا، في المرة القادمة، سأقول اسمكِ صراحة.
سألفظه كما يُلفظ السرُّ في اعترافٍ قسريّ،
وأتركه يتدلى من فمي كندبةٍ فاخرة.
يمكنكِ أن تعتبري هذا تهديدًا،
ويمكنكِ أن تتخيّليه خلاصا أخيرا
من حفرةٍ كنتُ ألوّح فيها منذ ألف مساء،
ولا أحد سحبني.
سأقول اسمكِ دون رموز، دون نداءٍ مغلّفٍ بالحنين،
ودون استعاراتٍ تُخفي انكساري تحت قشرة البلاغة.
سأقول اسمكِ،
كمن يشعل فيه قنبلةً ويقف أمام المرآة.
كمن يقرّر، أخيرًا، أن لا ينجو.
سأقول اسمكِ، لأنني تعبت من كتابتكِ
بخطٍّ سريٍّ على شراييني،
تعبتُ من أن تكوني كلّ شيء ولا شيء.
سأقول اسمكِ، لا لتسمعيه، بل لأُخرِسه. لأحرّره منّي،
وأحرّرني منكِ.
تخيّلي أن تمشي داخل مرآة، وتبحثي عن ظلّكِ ولا تجديه
أنا هذا الظلُّ،
وقد تأخرتُ عن نفسي كثيرًا.
وها أنا الآن أمدّ ذراعي لكِ وأصرخ من الداخل:
أريد أن أنام! فقط، أريد أن أنام. أناااااااااااام
ولا توقظيني،
إلّا إذا عادت البلاد بلا مقابر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى