رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :ليالي الحجر

عند عودتي من إسطنبول قبل ثلاث سنوات،
تعرضت للحجر ما أن وصلت مطار أوسلو رغم أن نتائج الفحص في المطار سلبية ، لأن تركيا من النقاط الحمر،
ونقلتنا حافلات الى فندق سياحي مرفه من خمس نجوم على حافة غابة ،
وكنا خليطاً من أقوام وحاولت في المطار الهرب من الحجر كعادتي في الهروب،
وتملصت من الحاجز الرقيق وتهت في ممرات المطار ولم أعثر على الباب الأمامي،
ولم أكن أعرف أني تحت مراقبة الكاميرات ومتابع من قبل شرطية،
إلا عندما سمعت من مكبر الصوت هذا النداء كبوق إسرافيل يوم القيامة:
” سيد حمزة…من الأفضل العودة الى المكان”.
المحير انهم سمحوا لابنتي بالمرور لانها نرويجية وحجزوني مما اثار غضبي واعلنت ثورة في المطار.
دخلت الغرفة المخصصة في الفندق وتحمل رقم 504 وتشاءمت من الرقم
لانه يحمل رقم بندقيتي في حرب الخليج الاولى،
كما أنه يحمل رقم قرار المحكمة العسكرية الثانية ـــ أو الخامسة ـــ في البصرة والسجن ثلاثة شهور لفقدان البندقية بعد أن وقعت في الأسر في الليل في معارك شرقي البصرة الأولى،
ثم تمكنت من الفرار من الحرس الثوري بعد موجة قصف من صواريخ عراقية على شكل مطر علينا وعليهم ومع التراب والظلام والفوضى والتشظي ستكون هناك فرصة للهروب وحانت فعلاً.
لا مشكلة عندي مع العزلة لكن هذه المرة ليست خياراً.
حصل فلسطيني على الرقم 48 وهو عام النكبة ورفض استلام الرقم
حتى تم تبديله ، والتفت الي ضاحكا:
” من غير المعقول أدخل وأخرج من هذا الرقم المشؤوم”
وأضاف مازحاً:
” وأنت هل كان الرقم جيداً؟”
” يحمل أعوام الحرب والسجن”
وعراقية حصلت على رقم غرفة 91، فسألتها :
” هل يذكرك الرقم بتاريخ؟”
” فقدت أخي فيه في غزو الكويت الكارثي”
الغرفة أنيقة ومرفهة لكن فكرة الحجر مزعجة ولنا الحق في الخروج متى نشاء والعودة، وعلى الحائط شاشة تلفاز كبيرة، وصدمت عندما توقف البث لتظهر فتاة على الشاشة تقول:
“سيد حمزة العشاء على طاولة قرب الباب”
وتكرر الأمر على افتراض ان الفيروس قد يكون يمر بدورة حضانة ولا يجب الاحتكاك بنا كمشبوهين ويحتاج الى عشرة ايام للظهور وتمنيت لو لم يظهر على هذه الرفاهية:
” الفطور، الغداء … ” .
وكنت قد سجلت في استمارة الفندق انني نباتي لا اقترب من اكل اللحوم مطلقاً من الولادة وتناولت في عشرة أيام أشهى الأطعمة،
لكن فكرة مناداتي عبر شاشة الفندق كل مرة:
” سيد حمزة لطفاً الطبيبة في انتظارك لأمر ما….”
فكرة كريهة حيث تحولت الى جهاز ميكانيكي أتحرك بأوامر كما في عالم
جورج أورويل في روايته الشهيرة: 1984، ويضاعف هذا الشعور الاحساس انك تحت النظر في سريرك من الشاشة المقابلة ومن المحتمل أن تكون مرئياً كل الوقت.
تحولت تلك الفكرة من فكرة كريهة الى ملهمة للتخطيط لعمل روائي في زمن كورونا قبل ان يصدر الروائي التركي اورهان باموق روايته: “ليالي الوباء”.
لكن كيف تقضي الوقت مع احتمال ان يكون الفيروس كامن فيك،
ولم يعلم بالحجر غير عدد من الاصدقاء محدود جداً مع إبنتي التي لا تكف عن السخرية في الهاتف:
” بابا، ظهر الفيروس أم لا؟”
مع الحجر لا تنقطع مواقع العلاقات العامة، عن الدخول من أسفل الحاسوب لحظات وتختفي، وخاصة مواقع العازبات الجميلات،
ويبدو ان العزل العام والقيود قد فرضت نمطا من الحياة غير متوقع،
وبلا شك يكون العربي حلاً في مثل هذه الظروف.
كلما حذفت موقعاً دخل إشعار آخر من زاوية الحاسوب، فقررت التسلية لكي أرى كيف تنتهي الامور.
دخلت أحد موقع التعارف وكان السؤال الأول عن الجنس، فكتبت ذكراً،
وعن الطول ولون العيون والشعر والوزن والتدخين والصحة والسكن ورقم الهاتف، ثم جاء حقل آخر عن نوع المرأة ، شقراء، سوداء، بيضاء، سمراء،
طويلة نحيفة معتدلة لأنها تعرض على الطرف الآخر،
فكتبت.
بعدها جاء حقل جديد عن المسافات،
* هل تريدها على مبعدة 100 متر، 500 متر، كيلم من محل اقامتك…. والخ؟”
لم أقل أني في الحجر لأن أي معتوهة لا تقترب لكني كتبت في فندق ومن شركة الاتصالات سيعرفون مكاني والموقع. للسرعة كتبت: 100 م،
بلا مناحة ورسائل غرام وقصائد باكية وقصائد نثر والجلوس تحت النافذة في المطر أو ربابة أمام الخيمة والتهديد بالانتحار . غراميات ما بعد الحداثة بلا قصائد ولا بطيخ ولا كوابيس ليلية.
ثم حقل آخر أن تتعهد بكتمان السر لأنك قد تلتقي بشخصية تعرفها،
خفت أن تكون جارتي او مدرسة ابنتي واحدة منهن. وقعت حتى بعلاقة المفاتيح على التعهد وهو التعهد الرابع في حياتي:
الأول: في العراق بعدم العمل في حزب عدو للحزب والثورة وكل شيء هناك هو عدو وأنا بطبيعتي لا أصلح لأي حزب حتى اليوم بلا تعهد واحب العمل منفردا بلا جماعة.
الثاني: طرد من ايران ورمي على الحدود الباكستانية مع 35 عراقيا وممنوع العودة نهائياً.
الثالث: لا أبقى في الباكستان ولا أعود اليه وأُسفّر الى بلد آخر غير العراق.
لكن لم ينته الأمر وسؤال:
*تتعهد بسلامتك من كل مرض؟
تعهدت وعكس ذلك السجن.
*بريدك الالكتروني؟ هاتفك؟
*البلد الأصلي؟
خفت أن أكتب العراق فأحصل على حظر فوري، كتبت عربي.
جاءت علامة حمراء تقول: غير صحيح،
ويبدو أن الموقع اللعين قد دقق بسلامة المعلومات السابقة
ولم تتطابق مع عنوان البلد. فكتبت: عراقي من أصل بوذي،
لكي لا أحسب على تنظيم اسلامي مع اني محزم باسماء أول شهداء الإسلام: حمزة والحسن.
جاء الجواب” غير مطلوب الدين”.
تذكرت ان السؤال عن الدين والمعتقد والمبادئ والعمام ومن اي عشيرة واي حزب واي بقال واي فران واي حمام واي دفان واي مقبرة ممنوع بالقانون والعرف والتقاليد.
* هل تدخن وتشرب؟
لا، كتبت.
* نوع العلاقة التي تريد؟ صداقة؟ زواج؟ حب؟
كتبت يتقرر وقتها،
جاء الرد: اجابة صريحة؟
فكرت في زمن الكورونا لا ضمان للغد، فكتبت: صداقة.
* هواياتك؟
كرة القدم والسينما والرياضة والسباحة،والموسيقى والمشي في الغابات والغناء. تحاشيت ذكر كاتب أو روائي لان الموضوع لا يحتاج ثقافة.
* هل سبق لك أن دخلت على هذه المواقع؟
فكتبت لا. لأنهم سيعرفون ذلك.
*سؤال أخير….؟
وفجأة سمعت الهاتف يرن وهو رقم إبنتي فلم أرد لكنها ظهرت في الواتساب زاعقة:
” لماذا لا ترد؟
قلت لها:” أرجوك بابا مشغول لحظة”.
فردت بغضب:
” مشغول بماذا؟”
فقلت حالاً:
” أملي استمارة انتماء لحزب البعث العربي الاشتراكي”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى