بين الشعر والقصة معاناة الكاتب وتحوّلات الكتابة..د/آمال بوحرب باحثة وناقدة

بين الشعر والقصة معاناة الكاتب وتحوّلات الكتابة
قد يبدو الانتقال بين الشعر والقصة في الظاهر مجرد تحول أسلوبي أو تقني، غير أن الحقيقة أعمق بكثير، فالمسألة ليست في اختيار قالب بل في مواجهة الذات والوجود من خلال فعل الكتابة. إن الكاتب يجد نفسه ممزقًا بين لغتين مختلفتين في الشكل متشابهتين في الجوهر: لغة الشعر التي تتفجر من الداخل كنبض لا يمكن إيقافه، ولغة القصة التي تفتح المجال للسرد والتحليل وإعادة تشكيل العالم عبر تفاصيل دقيقة. كلتاهما ليستا سوى مرآتين لذات واحدة تبحث عن الخلاص والبوح.
الشعر هو الصرخة الأولى التي يطلقها الكاتب من أعماق وحدته. إنه الكلمة التي لا تحتاج إلى وساطة الزمن ولا إلى منطق متسلسل، بل تنبثق فجأة مثل ومضة أو جرح مفتوح. لهذا يظل الشعر مسكن الروح حتى حين يحاول الكاتب أن يبتعد عنه. إنه يعبر عن الألم والفرح في لحظة واحدة، يختزل الوجود في صورة أو استعارة أو إيقاع، ويقف بمثابة دمعة أو ابتسامة في وجه الزمن. ولهذا يلازم الشعر الكاتب مثل قدر لا مهرب منه، لأنه يترجم معاناته الأولى بلا قناع.
أما القصة فهي تمنح الكاتب مسافة للتأمل، وتتيح له أن يروي المعاناة في شكل آخر. إنها مساحة لبناء عالم يضم شخصيات وأحداثًا ومصائر، غير أنها ليست مجرد بناء خارجي بل أيضًا معاناة داخلية من نوع مختلف. فالسرد فعل فلسفي يربط الوعي بالزمن، ويعيد ترتيب الفوضى في شكل حكاية. ومن خلال القصة يستطيع الكاتب أن يطيل النظر في أوجاعه وأفكاره، لا على شكل صرخة مكثفة بل في رحلة ممتدة تسير نحو نهاية أو ضياع. فالقصة بهذا المعنى ليست مجرد حكاية عن الآخرين، بل إعادة صياغة للذات وهي تواجه انكساراتها وأسئلتها.
وقد التفت كثير من الفلاسفة إلى هذا البعد الوجودي للكتابة؛ فرأى “سارتر “أن كل نص هو إعلان للحرية، وأن الكاتب مسؤول عن كلماته لأنها تخلق العالم وتعيد تشكيله. أما باشلار فقد اعتبر الخيال الشعري نافذة إلى أعماق التجربة الإنسانية، يكشف عما لا يدركه العقل المجرد. بينما ربط هوسرل الكتابة بالوعي والنية، معتبرًا أن كل سطر يكتبه الكاتب هو تمثيل لقصده وإدراكه الذاتي للعالم. وهكذا تصبح الكتابة، سواء كانت شعرًا أو قصة، تجربة فلسفية قبل أن تكون مجرد صنعة أدبية، لأنها تعكس مأساة الإنسان وسعيه المستمر للفهم والتجاوز.
هكذا يتضح أن الشعر والقصة ليسا طريقين منفصلين بل وجهين لمعاناة واحدة؛ أحدهما يعبر عن الألم في صور مكثفة، والآخر يرويه في سرد طويل. إنهما طريقتان مختلفتان للتعبير عن الوجع نفسه وعن الحلم نفسه. الكاتب في النهاية لا يختار بينهما، بل يجد نفسه منقادًا إلى كليهما. فحين يصمت الشعر يتكلم السرد، وحين يرهق السرد تعود القصيدة لتلخص المأساة في ومضة واحدة. لذلك فإن الشعر والقصة مساران متكاملان يشكلان وحدة التجربة الإبداعية، ويعكسان صراع الكاتب مع ذاته والعالم.
ويبقى السؤال الأهم: هل تكفي هذه الكتابة في كل أشكالها لمعالجة معاناة الكاتب والتخفيف من غربته؟ قد لا تمنحه النصوص شفاءً نهائيًا، لكنها تمنحه قدرة على مواجهة الألم وتحويله إلى لغة، واللغة بدورها تصبح عزاءً ورفيقًا في رحلة البحث عن المعنى. إن الكاتب يظل أسير هذا الأفق الممزق بين الشعر والقصة، لكنه في النهاية لا يكتب ليشفى، بل ليجعل معاناته قابلة للتأمل والمشاركة، وكأن الكتابة وحدها تستطيع أن تمنح الألم وجهًا آخر، أقل قسوة، وأكثر إنسانية
في غربة الزحمة حيث الفراغات تعجز عن احتضان الروح يبحث الكاتب عن ملاذه في الكلمات محاولا أن يصوغ من الألم حروفا تنقذ ذاته من التيه إن المعاناة هنا ليست قيدا بل محركا داخليا يدفع نحو البوح وكأن الكتابة تتحول إلى جرح مفتوح يطلب ضوءا داخليا ليضمده فكل متألم يجد في النص مرآة لذاته حيث يسكن الوجع وتولد القدرة على تجاوزه ومن هذا الأفق
الجواب ليس يقينا لكنه نسبي فالكتابة تمنح المتألم إمكانية جديدة للعيش وتتيح له أن يواجه نفسه بجرأة فيحول المعاناة من عبء خانق إلى لغة تعبيرية قادرة على خلق معنى جديد للوجود فالكاتب يتطهر عبر نصه لكنه لا يشفى تماما لأن الألم هو مادته الأولى وأفقه الأخير.
“جاستون باشلار “في كتابه جماليات المكان إذ يذكرنا بأن الفضاء ليس مجرد جدران ومحيط مادي بل هو بيت الذاكرة ومأوى الروح المكان في نظره فضاء حالم يتيح للخيال أن ينسج صور الطمأنينة والعزلة حيث تصبح الزوايا والخزائن والصناديق أوعية للألفة والذكريات ويتحول المتناهي في الصغر كحبة تفاح أو ركن مظلم إلى عالم كامل يفيض بالمعنى.
وعليه فإن الكتابة بمختلف أجناسها تشكل مأوى داخليا للكاتب يتقاطع فيه الواقع مع الحلم والجرح مع الأمل ليولد نص قادر على حماية الذات من الانهيار وإعادة بنائها من جديد.
د/آمال بوحرب
باحثة وناقدة