حسام السيسي يكتب :الإعلام كأداة سلطة لا كرافعة وطن: مأزق الأمن القومي المصري والعربي

…
أدهش دومًا من مشهد الإعلاميين الذين احترفوا التطبيل. بعضهم يُسمَّون في الشارع “إعلاميي السامسونج”، لأنهم يعملون بالريموت لا بالعقل. أراهم اليوم يتحدثون بحماسة عن المناورات العسكرية بين مصر وتركيا، فأستعيد على الفور كم كانوا يهاجمون أردوغان أمس بأبشع الأوصاف، كأنهم لم يقولوا شيئًا من قبل.
هذا التناقض لم يأتِ من فراغ؛ ففي لحظة واحدة، يتحول “العدو اللدود” إلى “شريك استراتيجي”، فقط لأن إشارة جاءت من فوق. لا أحد يسأل: كيف تنعكس هذه العلاقة على مصالح الشعب؟ أو ما الذي تغير في جوهر السياسة التركية حتى تنقلب الموازين؟ الإعلام لا يجرؤ على طرح هذه الأسئلة، بل يكتفي بعكس اتجاه الريح.
لكن أكثر ما يكشف عطب المنطق الإعلامي عندنا هو طريقة تناول المقاومة الفلسطينية. ففي ذروة الحرب الأخيرة على غزة، لم يتورع بعض الإعلاميين عن تصويرها كفصيل أيديولوجي يغامر بمصير الناس، بدل أن يروها كخط دفاع أول عن الأمن القومي المصري. إدخال الأيديولوجيا هنا يفسد المقصد؛ لأن السؤال الحقيقي ليس: ما عقيدة المقاومة؟، بل: ما موقعها في معادلة الأمن القومي المصري؟
حين تُقصف غزة، يتلقى الأمن القومي المصري ضربة مباشرة. وحين تصمد المقاومة، يتعزز عمق مصر الاستراتيجي، حتى لو اختلفت المرجعيات الفكرية أو التوجهات. منطق الدولة يجب أن يعلو فوق منطق الأيديولوجيا، وإلا تحولت المعادلة من حماية الشعب إلى تصفية حسابات سياسية ضيقة.
السياسة في جوهرها ليست معركة خصومة دائمة ولا صداقة أبدية؛ السياسة هي كيف تحافظ على المصلحة العليا للوطن. والوطن هنا ليس الكيان الرسمي المجرد، بل الشعب نفسه، الناس البسطاء الذين يُفترض أن توظَّف من أجلهم كل إمكانيات الدولة. لكننا نرى العكس: الإعلام عندنا مسخَّر لخدمة فرد أو مجموعة ضيقة، بينما في الكيان الإسرائيلي – مع كرهي الشديد لمسؤوليه – كل المؤسسات والإمكانات، من الإعلام حتى الأمن والدبلوماسية، مجندة لخدمة مواطنيهم.
تجربة السنوات الماضية تؤكد ذلك: إسرائيل تفتح جبهات في غزة ولبنان وسوريا واليمن، ومع ذلك تبقى متماسكة داخليًا بفضل تماسك مؤسساتها. أما دول عربية كبرى فاستنزفت اقتصادها وطاقتها تحت شعار “محاربة الإرهاب”، بينما الحقيقة أن غياب الشفافية والرقابة والمحاسبة هو ما أنهكها.
أتذكر جيدًا تجربتي مع الراحل عصام عامر، رئيس التحرير الدمث الذي طلب مني في ذروة ضجيج “اتفاقيات أبراهام” أن أكتب تقريرًا موسعًا عن عبث الإمارات في الإقليم. لم أفعل ذلك طاعة لطلبه فقط، بل لقناعة راسخة عندي. كتبت تقريرًا تحت عنوان “إسبرطة الصغيرة”، ورأيته قبل الطباعة، لكنني فوجئت بعد صدور العدد باختفائه وحلول تقرير آخر لي مكانه. لم أسأله عن السبب، فقد كان مهنيًا أكثر من أن يحرج.
ذلك الموقف ظل علامة فارقة: في النهاية، من يقرر ماذا يصل إلى الناس ليس الصحفي المجتهد، بل مزاج السلطة. لكن عصام عامر نفسه كان منصفًا حين طلب مني لاحقًا أن أكتب سلسلة تحت عنوان “البحث في الجذور”، أربعون تحقيقًا استقصائيًا لا أظن لها مثيل في الصحافة العربية. كان الراحل محمود بكري يقرأها باستمرار، وأشار إليّ بجمعها في كتاب. ربما أفعل يومًا. تلك السلسلة كانت بالنسبة لي برهانًا أن الصحافة الحقيقية ممكنة، لكنها دائمًا مهددة بالقصّ أو الحجب.
الفارق بين إعلام يَبحث في الجذور، وإعلام يُعيد تدوير خطاب السلطة، هو نفسه الفارق بين دولة مؤسسات ودولة أشخاص. دولة المؤسسات تعرف أن الأمن القومي يُبنى بالشفافية والرقابة والمحاسبة: من ينجح يستمر، ومن يفشل يتنحّى. أما دولة الأشخاص، فكل شيء فيها شخصي، وكل المؤسسات تدور في فلك فرد واحد، حتى لو انهارت البلاد.
الخلاصة واضحة: الإعلام حين يكون أداة سلطة، يخسر الوطن. حين يغيب المعيار الوطني، تصبح السياسة مجرد إدارة لحظية لمصالح ضيقة، ويضيع معها الأمن القومي للشعب. الإصلاح يبدأ من إعادة الاعتبار إلى المصلحة العليا، وتحرير الإعلام من الشخصنة، ليعود رافعة للوطن لا أداة لتبرير السلطة.