د.محمود يونس يكتب : التهاب الأعصاب السكري: رحلة نحو الفهم والشفاء
عندما تهمس الأعصاب بالألم

في أعماق جسدك، تمتد شبكة معقدة من الأسلاك الحيوية التي تسمى الأعصاب. هذه الرسل الصامتة تنقل همسات اللمس، وصرخات الألم، ونغمات الإحساس من أطراف أصابعك إلى عقلك الواعي. ولكن عندما يداهم السكري هذه الشبكة الرقيقة، تبدأ قصة مختلفة تماماً – قصة التهاب الأعصاب السكري.
ما هو التهاب الأعصاب السكري؟
التهاب الأعصاب السكري، كالضيف الثقيل الذي يدخل إلى منزل أعصابك دون استئذان. إنه أحد أكثر مضاعفات مرض السكري شيوعاً، حيث يصيب ما يقارب 60-70% من مرضى السكري في مرحلة ما من حياتهم.
تخيل أعصابك كأسلاك كهربائية رفيعة مُغلفة بطبقة عازلة تُسمى “المايلين”. عندما يبقى السكر مرتفعاً في الدم لفترات طويلة، فإنه يتسلل كالسم البطيء إلى هذه الأسلاك، مُدمراً الغلاف الواقي ومُتلفاً الألياف العصبية نفسها.
أنواع التهاب الأعصاب السكري: أوجه متعددة لمعاناة واحدة
1. الاعتلال العصبي الطرفي
هذا هو الشكل الأكثر شيوعاً، والذي يبدأ رحلته من أطراف القدمين كالنار التي تأكل الخشب الجاف. يشعر المريض وكأن أقدامه ترتدي جوارب من الشوك، أو كأن إبراً ساخنة تخترق جلده. قد تفقد القدمان الإحساس تدريجياً، فتصبحان كالأرض المهجورة التي لا تستجيب لأي نداء.
2. الاعتلال العصبي المستقل
هنا تصاب الأعصاب التي تتحكم في وظائف الجسم اللاإرادية – تلك الأعصاب التي تعمل في صمت كعمال الليل المجهولين. فقد تتأثر عملية الهضم، فيشعر المريض بالغثيان المستمر، أو قد يتأثر القلب فتضطرب ضرباته، أو قد تتأثر المثانة فيفقد السيطرة على التبول.
3. الاعتلال العصبي البؤري
هذا النوع يهاجم عصباً واحداً أو مجموعة محددة من الأعصاب، كالبرق الذي يضرب نقطة واحدة بدقة. قد يفقد المريض القدرة على تحريك عضلة معينة في الوجه، أو قد يشعر بألم حارق في منطقة محددة من الجسم.
الأعراض: لغة الجسد المتألمة
الأعراض تأتي كرسائل مشفرة من جسد يحاول أن يخبرك أن شيئاً ما ليس على ما يرام:
في البداية:
– وخز رقيق كوخزة النمل على الجلد
– حرقة خفيفة تشبه لمسة الشمس الحارقة
– تنميل يأتي ويذهب كالموجات
مع التقدم:
– ألم يشبه السكاكين الحادة تطعن القدمين
– فقدان الإحساس التدريجي، كأن القدمين ترتديان قفازات سميكة
– ضعف في العضلات يجعل المشي كالسير على الحبال
– قرح لا تشفى، تظهر كالجروح الصامتة التي تأبى الالتئام
الأسباب: جذور المعاناة
السبب الجذري يكمن في ارتفاع مستوى السكر في الدم لفترات طويلة. تخيل أن السكر الزائد في دمك كالملح الذي يُلقى على الجروح، فهو:
– يُدمر الأوعية الدموية الصغيرة التي تغذي الأعصاب
– يُحدث التهاباً مزمناً في الأنسجة العصبية
– يُنتج مواد سامة تُسمى “منتجات التسكر النهائية المتقدمة”
– يؤثر على عملية إصلاح الأعصاب الطبيعية
التشخيص: كشف أسرار الألم
الطبيب يستخدم عدة أدوات لكشف هذا المرض الخفي:
الفحص السريري:
يفحص الطبيب قدميك بأدوات بسيطة لكن دقيقة – شوكة رنانة لفحص الاهتزاز، وخيط رفيع لفحس اللمس الخفيف، ومطرقة صغيرة لفحص ردود الأفعال.
الاختبارات المتخصصة:
– اختبار توصيل العصب: يقيس سرعة إنتقال الإشارات العصبية
– تخطيط العضل: يفحص النشاط الكهربائي للعضلات
– اختبار الألياف العصبية الصغيرة: أحدث التقنيات لكشف الأضرار المبكرة
العلاج: رحلة نحو الشفاء
السيطرة على السكر: الحل الجذري
هذا هو قلب العلاج وروحه. السيطرة الدقيقة على مستوى السكر في الدم يمكن أن توقف تقدم المرض، بل وتعكس بعض أضراره في المراحل المبكرة. الهدف هو الوصول بمستوى السكر التراكمي (HbA1c) إلى أقل من 7%.
علاج الألم: تهدئة العاصفة
الأدوية العصبية:
– البريجابالين والجابابنتين: يهدئان الإشارات العصبية المؤلمة
– مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات: تُغير طريقة الدماغ في معالجة الألم
– مضادات الاكتئاب الحديثة: مثل الدولوكستين
العلاجات الموضعية:
– كريمات الكابسيسين المستخرج من الفلفل الحار
– لاصقات الليدوكايين المخدرة موضعياً
العلاج الطبيعي: استعادة القوة
برامج التمارين المصممة خصيصاً تساعد في:
– تحسين الدورة الدموية
– تقوية العضلات
– تحسين التوازن
– منع السقوط
التغذية: وقود الشفاء
– الأحماض الدهنية أوميجا-3: تقلل الالتهاب
– مضادات الأكسدة
– فيتامين ب12 وحمض الفوليك: ضروريان لصحة الأعصاب
– الأحماض الأمينية: لبنات بناء إصلاح الأعصاب
الوقاية من التهاب الأعصاب السكري تبدأ من اليوم الأول لتشخيص مرض السكري:
– المراقبة المستمرة: فحص مستوى السكر بانتظام
– النظام الغذائي المتوازن: تناول وجبات منتظمة مع تجنب الإفراط في السكريات
– النشاط البدني: ممارسة الرياضة لمدة 30 دقيقة يومياً
– العناية بالقدمين: فحصهما يومياً والحفاظ على نظافتهما
– المتابعة الطبية: زيارة الطبيب بانتظام لمراقبة المضاعفات
العلم لا يتوقف عن البحث عن حلول جديدة:
– العلاج بالخلايا الجذعية: يُجرى حالياً بحوث واعدة لاستخدام الخلايا الجذعية في إصلاح الأعصاب التالفة
– العلاج الجيني: محاولات لإصلاح الجينات المسؤولة عن إنتاج البروتينات الضرورية لصحة الأعصاب
– تقنيات التحفيز العصبي:أجهزة حديثة تحفز الأعصاب كهربائياً لتقليل الألم