كتاب وشعراء

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله لنص أصداء الوهم للشاعرة د.مرشدة جاويش

تحرر الحرف بين النقد الحديث والتجربة الصوفية: دراسة في قصيدة ” أصداء الوهم” للشاعرة مرشدة جاويش

تأتي قصيدة “أصداء الوهم” للشاعرة مرشدة جاويش بوصفها بياناً شعرياً حول علاقة النص بالذات والقارئ واللغة. إنها قصيدة تتحدى فكرة ملكية النص وتعيد الاعتبار للشعر باعتباره فضاء مفتوحاً يتجاوز حدود الأفراد وظلالهم ليقيم في الفراغ واللانهاية. في هذا السياق، تحاكي القصيدة مقولات نقدية وفلسفية معاصرة أبرزها أطروحة رولان بارت في “موت المؤلف” وقراءات جاك دريدا للتفكيك والاختلاف فضلاً عن نظريات التلقي عند هانس روبرت ياوس وفولفغانغ إيزر. مع انفتاحها على البعد الصوفي الذي يمنح النص أفقاً روحانياً يتجاوز المحسوس.

في هذه الدراسة: القصيدة تمارس نقداً مضاعفاً نقداً لوهم القارئ الذي يستحوذ على النص و نقداً لسلطة المؤلف الضمنية. وفي المقابل، تقترح الشعر باعتباره كياناً حراً و كونياً غير خاضع للملكية ولا للقياسات الذاتية.

البنية الشعرية وتفكيك الشكل
القصيدة مكتوبة بلغة حرة أقرب إلى شعر النثر خالية من القوالب العروضية التقليدية. لكنها تحمل إيقاعاً داخلياً مبنياً على التكرار والتوازي:

” فَيَمضي مَجازُ الكَلامِ..”
“فَيَنتَعِرُ المُستَعارُ…”
“فَمَاالنَّظْمُ إِلّا فَضاءٌ…”
هذا التكرار الصوتي يخلق لحناً إيقاعياً لا يخضع للوزن بل يتولد من طاقة اللغة ذاتها على نحو ما يسميه هنري مشونيك بـ”الإيقاع الدلالي” الذي يتجاوز الموسيقى التقليدية ليصبح مكوناً للمعنى.

الثيمات المركزية

الشعر كفضاء حر

منذ البداية تؤسس القصيدة لفضاء يتجاوز الزمن والمكان:

“على هامِشِ الغُيومِ حيثُ ينهارُ الزَّمَنُ ويتراءى الفَراغُ”

هذا الانهيار للزمن يتناغم مع تصور غاستون باشلار في “جماليات المكان” بأن الشعر يمكن الذات من السكن في اللامكان، حيث تتبدد الحدود الفيزيائية لصالح التجربة المتخيلة.

رفض ملكية النص
القصيدة تدين محاولة القارئ امتلاك النص:

“أَيَحسَبُ أَنَّ القَصيدَةَ مِلكُ خُطاهُ؟”

هذه الجملة تحاكي مباشرة أطروحة بارت (1968) في مقاله الشهير “موت المؤلف”، حيث يؤكد أن النص لا يعود ملكاً لمؤلفه أو لقارئ فرد بل ينفتح على شبكة من المعاني اللانهائية.

الحرف ككائن حي

الحروف في النص تصور ككائنات نامية:

“تَنبُتُ الحُرُوفُ وتَفصَحُ الأرواحُ عن ذاتٍ لم يُكتَشَف بعدُ”

هذا التشخيص يعكس تصور بول ريكور للرمز باعتباره حاملاً لطاقات لا نهائية للتأويل لا يمكن استنفادها من قراءة واحدة.

الشعر كريح بلا موعد

«الشِّعرُ ريحٌ عَلى غَيرِ ميعادٍ… بِلا قَيدٍ بِلا وُجهَةٍ وَبِلا اعتِذار»

في هذا التصوير يتحول الشعر إلى قوة عابرة و مطلقة الحرية. هذه الفكرة تتناغم مع رؤية هيدغر للشعر في كتابه:
(Hölderlin and the Essence of Poetry)
“هولدرلن وماهية الشعر”، حيث يرى أن الشعر يكشف الكينونة بوصفها انفتاحاً لا يسيطر عليه…

جدلية القارئ والنص

القصيدة لا تهاجم القارئ بالمطلق بل تنتقد الوهم الناتج عن اختزال النص في ذات القارئ:

“فَمَن ظَنَّ أَنَّ القَصيدَةَ مِرآةُ نَفسِهِ / لَم يَقرَأِ الشِّعرَ بَعدْ”

هذه المقولة تحاكي أفكار فولفغانغ إيزر الذي يرى أن القارئ الحقيقي لا يفرض ذاته على النص بل ينفتح على “الفجوات” التي يتركها النص ليتشكل المعنى. وهنا يظهر البعد الحواري للنص على نحو يقارب تصور ميخائيل باختين لفكرة “تعدد الأصوات”….

البعد الصوفي في القراءة

القصيدة تحمل بعداً صوفياً واضحاً يتجلى في صورها وانفتاحها على المطلق:

الفراغ والغيوم:

“على هامِشِ الغُيومِ حيثُ ينهارُ الزَّمَنُ ويتراءى الفَراغُ”

هذا المشهد يقارب فكرة ابن عربي عن “الخيال الخلاق” الذي يفتح أبواب الوجود على عوالم لا نهائية حيث يصبح الزمن نسبياً والفراغ موضع تجلٍ روحي…

الحرف ككائن متعالٍ:

“الحَرْفُ لا يَحُدُّهُ وَجهٌ وَلا يَصطَفي أَحَدْ”

يقارب قول ابن عربي: “الحروف أمة من الأمم، لها في كل حد سر”. هنا يصبح الحرف كائناً روحانياً يفيض بمعانٍ متجاوزة.

الشعر كالريح:

“الشِّعرُ ريحٌ عَلى غَيرِ ميعادٍ”

يقارب هذا رؤية جلال الدين الرومي في أن الريح رمز للروح الإلهي الذي يهب حيث يشاء بلا سبب ولا غاية مجسداً لحضور الغيب في التجربة الشعرية.

جذوة الصمت:

“أُطلِقُ مِن راحَتي جُذوَةَ الصَّمتِ”

هنا يتجلى ما يشبه تجربة الحلاج حيث يصبح الصمت احتراقاً داخلياً يولد الكلام أي أن الصمت نفسه يصبح ذكراً وشهوداً.

إذن، البعد الصوفي يوضح أن النص ليس مجرد احتجاج على ملكية القارئ والمؤلف بل هو سعي لتحرير الكلمة من قيد الزمان والمكان، وإطلاقها كتجلٍ روحاني مطلق…

البعد البلاغي والجمالي

الاستعارات: مثل “جذوة الصمت” حيث يتحول الصمت إلى نار مولدة للقول.

التضادات: (صمت/سطور، ملكية/فضاء، مرآة/غيوم).

الإيقاع الدلالي: تواتر حرف الفاء في “فَيَمضي”، “فَيَنتَعِرُ”، “فَمَاالنَّظْمُ” يؤسس لسلسلة منطقية تربط المقاطع.

قصيدة “أصداء الوهم” ليست مجرد بوح شعري بل بيان نقدي فلسفي صوفي يعيد تعريف علاقة الشعر بالكاتب والقارئ واللغة. عبر بنيتها الحرة وصورها الكونية واستعاراتها الغنية تضع القصيدة الشعر في موقع مقاومة لوهم الملكية والاستحواذ وتمنحه هوية كونية متحررة.

لقد أثبتت هذه القراءة أن النص يجسد عملياً مفاهيم معاصرة في النقد (موت المؤلف، جمالية التلقي، التفكيك) كما ينفتح على أفق صوفي يجعل الحرف فضاء روحياً والقصيدة تجلياً للغيب. بذلك، تصبح القصيدة جسراً بين النقد الحداثي والفكر الصوفي مؤكدة أن الشعر يظل دائماً ريحاً حرة بلا قيد و صوتاً كونياً بلا انتماء خاص.

إن قيمة النص تكمن في وعيه النقدي والروحي الذاتي حيث يمارس الشعر دوره النقدي تجاه ذاته وتجاه قارئه ويمنح الباحث فرصة لقراءة متجددة تنفتح على آفاق فلسفية و صوفية عابرة للحدود.

النص :
على هامِشِ الغُيومِ حيثُ ينهارُ الزَّمَنُ ويتراءى الفَراغُ على هيئةِ رَجِيْف تَنبُتُ الحُرُوفُ وتَفصَحُ الأرواحُ عن ذاتٍ لم يُكتَشَف بعدُ

#أصداءُ #الوَهم

أُطلِقُ مِن راحَتي
جُذوَةَ الصَّمتِ
كَي تَستَفيقَ السُّطورُ
فَيَمضي مَجازُ الكَلامِ
إلى أُفُقٍ لا يُسَمَّى
وَلَكِنْ…
هُنالِكَ مَن يَقرَأُ الحَرفَ
مِثلَ مِرآةِ وَجهٍ
وَيَحسَبُ أَنَّ الرَّنينَ المُبَعثَرَ
نُقِشَ باسْمِهِ
فَيَنتَعِرُ المُستَعارُ
عَلى وَهجِ مَعنىً
لَم يُكتَبْ لَهُ
أَيَحسَبُ أَنَّ القَصيدَةَ
مِلكُ خُطاهُ؟
وَأَنَّ الرُّموزَ تُقيمُ الوَلاءَ لَهُ؟
مَاالنَّظْمُ إِلّا فَضاءٌ
تَنوءُ بِهِ الأرواحُ
تَسيرُ بِهِ الذِّكرياتُ
وَتُهطِلُ فيهِ غُيومُ الأَسى…
فَلا شَأنَ فيها
لِمَن يَتَوَهَّمُ أَنَّ المَدى
شُرفَةٌ خاصَّةٌ كَي يُطِلَّ بِها
فَالحَرْفُ لا يَحُدُّهُ وَجهٌ
وَلا يَصطَفي أَحَدْ
هُوَ أَرحَبُ مِن ظِلِّ قارِئِهِ
وَأَبعَدُ مِن وَهمِ مَن ظَنَّ
أَنَّ الحُروفَ تُقاسُ بِمِقاسِ ثَوبٍ
أَو تُطَرَّزُ كَي تُرضي غُروراً يَتيماً
الشِّعرُ
ريحٌ عَلى غَيرِ ميعادٍ
تُقيمُ خِيامَها في الفَراغ
تَعبُرُ الأَسماءَ جَميعاً
ثُمَّ تَمضي…
بِلا قَيدٍ
بِلا وُجهَةٍ
وَبِلا اعتِذار
فَمَن ظَنَّ أَنَّ القَصيدَةَ مِرآةُ نَفسِهِ
لَم يَقرَأِ الشِّعرَ بَعدْ

#مرشدة #جاويش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى