كتاب وشعراء

وجه الحقيقة مجموعة مقالات تكشف ابعاد الفكر والوجه الإنساني بلا حواجز ولا قيود.المفكر المغرور…د. آمال بوحرب كاتبة وناقدة

‏‎
وجه الحقيقة مجموعة مقالات تكشف ابعاد الفكر والوجه الإنساني بلا حواجز ولا قيود

المفكر المغرور
اعتبر المفكر ضمير المجتمع وصوت الوعي حيث يحمل رسالة الفكر الحر محولاً المعرفة إلى أداة لفهم الإنسان والواقع وبناء مجتمع واعٍ يقظ المفكر الحق هو من يُوازن بين وعيه بذاته ومسؤوليته تجاه الآخرين ليصبح ركيزة للتنوير والتغيير الإيجابي. تاريخ الفلسفة يؤكد أن مدخل الفكر يبدأ بإدراك الأنا كبوابة أساسية للوعي كما عبّر ديكارت بقولته الشهيرة
‏‎“أنا أفكر إذن أنا موجود”
‏‎مبيّناً بذلك أن الفكر هو مدخل لفهم أوسع يتطلب الانفتاح على الآخرين. ويؤكد جان بول سارتر هذه الرؤية حين يربط حرية الإنسان بمسؤوليته تجاه المجتمع مُبرزاً ضرورة دمج الإدراك الذاتي مع الانخراط الفعّال في الواقع لإنتاج معرفة نافعة تخدم الجميع ولهذا شهد كان تعريف المثقف عبر العصور متنوعا لكنه يتفق على كونه حامل فكر نقدي مسؤول قادر على التحليل والتفسير متحلياً بالتواضع والانفتاح معتبراً المعرفة ميراثاً مشتركاً. توفيق الحكيم يرى أن “المثقف هو من يعرف قيمة الحياة والناس ويوازن بين وعيه بذاته ومسؤوليته تجاه المجتمع” وشدّد دوستويفسكي على أهمية الصدق مع النفس قائلاً
‏‎“لا تكذب على نفسك فالكذب يفقد الإنسان القدرة على تمييز الحقيقة واحترام الذات والآخرين”
‏‎وكذلك يرى جبران خليل جبران أن “المثقف هو من يحوّل التجربة الإنسانية وعاء للفهم والإبداع وينقل المعرفة بروح صادقة وتواضع”.
‏‎غير أن المفكر وسط تغيرات الحياة المادية وتأثير أسلوب الحياة الحديثة على القيم الفكرية لم يعد كما كان؛ فقد تحول المفكر أحياناً إلى شيء مختلف تماماً. وأصبحنا نتحدث اليوم عن المفكر المغرور.
‏‎المفكر المغرور شخصية تنزع إلى تحويل الفكر إلى أداة ترويج للذات بدلاً من أداة لتنمية المعرفة وخدمة المجتمع. يتميز بسلوكيات تعكس استعلاء واضحاً على الآخرين ويعطي مظهراً من الكبرياء الفكري الزائف الذي يخفي ضعف التواضع الحقيقي. من السمات الجوهرية لديه رفض النقد البناء إذ يعتبر رأيه النهائي والأسمى مطلقاً لا يُجادل مما يمنعه من التطور والارتقاء بالمعرفة التي يحاول تقديمها.
‏‎غالباً ما يخفون مصادر معرفتهم أو يتباهون بها بشكل مبالغ فيه ساعين إلى إظهار أنفسهم كمصدر حصري للعلم والحكمة وهو سلوك يضعف مصداقيتهم ويتعارض مع مبادئ الأمانة العلمية والأخلاق الفكرية. بالإضافة إلى ذلك يميلون إلى الانغلاق على ذواتهم مقدمين الصورة والمظاهر السطحية على جوهر الرسالة الفكرية فيعطون الأولوية للمهرجانات والجوائز والظهور الإعلامي ويتغافلون عن جوهر القضايا التي يجب أن يخدمها الفكر.
‏‎يظهر سلوكهم بوضوح في فضاءات التواصل الاجتماعي حيث يصبح التنافس على الشهرة والانتشار الهدف الأكبر متجاهلين الدور الحقيقي للمثقف كمنير وعامل تنوير. ينتج عن هذا انحراف خطير في وظيفة المعرفة إذ تتحول إلى أداة للافتعال والفردية المتعالية بدلاً من أن تكون جسراً للتقارب الاجتماعي والحوار الثقافي البناء.
‏‎هذا الاستعلاء الفكري الذي يتحكم بسلوك المفكر المغرور لا يفسد العلاقة مع العلم فقط بل يهدد نسيج المجتمع ويقضي على قيم المشاركة والعدل والاحترام الفكري التي تقوم عليها ثقافة حية ومتطورة. من هنا يأتي التحذير الفلسفي من ضرورة التواضع باعتباره شرطاً لا غنى عنه لفهم الآخرين والنصوص وتجديد الفكر وحماية الثقافات من تحولات الاستعلاء والهروب من النقد.
‏‎الغرور لا ينفي صفة المفكر لكنه يضعف أثره ويقلل من تأثير أفكاره. فالمفكر المغرور الذي يحتكر المعرفة ويخفي مصادرها يصبح عاملاً لهدم القيم الثقافية مفرغاً الثقافة من المشاركة والعدالة والصدق وهي قيم أساس لثقافة أصيلة وناضجة.
‏‎في سياق الحديث عن التواضع الفكري يبرز سقراط كنموذج فلسفي عميق يحمل جوهر الحكمة والاعتراف بحدود المعرفة فقد أعلن سقراط بفصاحة
‏‎“أنا أعلم أني لا أعلم”عبارة تعبر عن ذروة التواضع الفكري إذ يعترف بجُهلِه نقطة انطلاق حقيقية للحكمة معتبراً أن مساءلة الذات والآخرين هي الطريق المستمر لاكتساب المعرفة سقراط لا يجسد فقط تواضع النفس أمام عظمة المجهول بل يؤسس لمنهج جدلي يرتكز على الحوار والنقد الذاتي كوسيلة لبناء الفكر الثقافي والتنويري.
‏‎على الجانب الآخر يمثل المتنبي في عالم الشعر والبلاغة نموذجاً يجمع بين الكبرياء الشعري والاعتراف بفضل الآخرين وهو تواضع يزيد من عظمته ولا ينتقص منها فقد أقر المتنبي بمكانة أبي تمام بقوله ضمنياً
‏‎“الاعتراف بإنجازات الآخرين لا يقلل من رصانة الشاعر ولكن يعمق شبكة الارتباط الثقافي”
‏‎هذه الروح تعكس نضجاً فكرياً وأخلاقياً نادراً حيث ينظر إلى التواضع كقيمة تؤسس لثقافة الاحترام المتبادل والتداعي الفكري البناء مما يوسع دائرة المعرفة ويثريها.
‏‎في الفلسفة الإسلامية يجسد ابن رشد نموذج التواضع العلمي إذ آمن أن الحجة والبرهان يجب أن تكونا ركيزة النقاش بعيداً عن الغرور أو التعصب مؤكداً
‏‎“إن راهن الغرور يعمى العقل عن الحقيقة ويفسد سياق البحث العلمي”كما عكست مواقف جبران خليل جبران تواضعاً إنسانياً عميقاً إذ نقل الفكر والأدب الشرقي إلى العالمية بروح صادقة تحفظ احترام الآخر وتعزز الحوارات الثقافية البناءة.
‏‎وعلى المستوى العلمي الحديث عبّر أينشتاين بتواضع مدهش قائلاً
‏‎“أنا مجرد طفل يلعب على شاطئ يكتشف صدفة بعد أخرى في حين يبقى المحيط اللانهائي من المعرفة مجهولاً”
‏‎ونيوتن يشارك هذه الروح بتشبيهه نفسه بطفل صغير أمام بحر المعرفة الواسع.
‏‎تجمع هذه الأمثلة بين الفكر والتواضع مبينة أن المعرفة الحقيقية تزدهر حين تترسخ في خدمة الجماعة وتقبل الآخر لا حين يستولي عليها الغرور والاستعلاء.
‏‎ولكن في ظل تسارع تحولات العصر الرقمي والانفجار المعلوماتي هل يستطيع المثقف المحافظة على تواضعه الفكري ومقاومة غواية الشهرة والأنانية الرقمية؟ وكيف يمكن للمؤسسات الثقافية والأكاديمية تعزيز هذا الخلق لضمان استمرارية ثقافة ناضجة وصحية؟
(المقال الاول )
د. آمال بو حرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى