حمزه الحسن يكتب :المختلف فضيحة المتشابه

ــــ المتكيف مع مجتمع مريض هو مريض.* إريك فروم، عالم نفس وفيلسوف ومؤرخ.
لو لم يكن المتأقلم يستعمل المعايير نفسها والقواعد نفسها واللغة نفسها لما تكيف مع واقع مريض. هو مضطر أن يبتسم لمن يكرهه، ويؤدي التحية لمن يخاف منه، ويجالس من يرغب في انصرافه، ويمدح علناً من يشنع عليه سراً …الخ التناقضات التي تنتج في النهاية شخصية مريضة متطابقة لا تعرف حجم الاضرار النفسية والجسدية التي سببتها لنفسها ويتشوه دون أن يعرف وينزلق على مراحل وتتلاشى شخصيته الطبيعية لتحل محلها شخصيات مزورة لكل شخص ومناسبة.
المتطابق يحاول الحفاظ على وجود هامشي سطحي على حساب ضميره وصحته لكنه في النهاية يخسر الاثنين والاهم يخسر حياته لصالح وجود آخر.
يقول الروائي الروسي لويس باسترناك مؤلف رواية الدكتور زيفاغو الذي رفض جائزة نوبل بسبب الحملة عليه من النظام السوفيتي وطرده من اتحاد الكتاب لانه ليس ببغاء في قفص حزبي ومات في عزلة ودفنه حفنة من ريفيي المنطقة:
” صحتك تتأثر إذا أضطررت ، يوماً بعد يوم ، أن تقول عكس ما تحس ، أن تنحني أمام ما تكره ، أن تفرح بما لا يجلب لك إلا الشؤم ،
جهازنا العصبي ليس خُرافة ، إنه جزء من جسدنا ، وروحنا توجد في مكان ما داخلنا ، كالأسنان في فمنا ، لا يمكن التعدي عليها بإستمرار دون عقاب”
ـــ ما هي المشكلة لو كنت مختلفاً أو متناقضاً؟ * غرامشي ضاحكا في مؤتمر صاخب. لن ينكسر عود ثقاب ولن يعثر جواد أشقر في حقل بري ولن تسقط ورقة خريف ، فلم الخوف من المختلف؟
من الواضح لماذا تخاف السلطة من المثقف النقدي المنتج للأفكار
وصاحب اللغة المضادة ومعكر الصفو المزيف وهو شرط المثقف الجوهري
وليس كل كاتب مثقفاً،
لأنه ينافسها على شرعية الحقيقة، وتشجع الاعلامي المأجور والمهرج والانتهازي لكي تظهر أكثر أخلاقية منه بصمتها وتجاهلها.
السلطة تدعي إمتلاك الحقيقة وتزورها وهو لا ينتمي لأحد أو طرف غير الحقيقة.
اذا كان المثقفون جوقة تعزف في اتجاه واحد، كيف سنرى المستقبل؟ قد يكون الحديث عن المثقف المختلف اليوم في عالم التطابق والتناسخ والتشابه، من الخوارق كالحديث عن ولادة تمساح من بقرة.
لو كان المثقف والاديب متطابقا مع الجميع، وهو مشروع مستقبل بديل، لماذا لا يصبح بائع شاورمة؟ بتعبير الروائي حنا مينة يوم طلب منه اتحاد الادباء العرب للعضوية شهادة حسن السلوك التي لا توجد في الدول الديمقراطية وتعتبر اهانة. تلك الشهادة التي يكتبها رجل أمن أمي ثقافيا أو مختار الشارع الأبله والمخبر.
السلطة تحاول ترسيخ القواعد للتسلط وهو يحاول نسف القواعد،
السلطة مسلمات وبديهيات وخطابات جاهزة، والمثقف المستقل المعرفي حقل مغامرة فكرية ورفض للجاهز والمقر.
السلطة يقين زائف وهو شك وبحث وسؤال، هي سطح وهو قاع،
هي تكذب وهو يفضح، هو يفكر وهي تجتر،
هي تحجب وهو يكشف،السلطة تراوغ وهو يعري. السلطة ليست الحكومة فحسب بل هناك جيش ملحق بها من الكتاب والادباء حتى لو إدعوا معارضتها لأنهم في النهاية يحملون العقلية نفسها والكراهية نفسها للمثقف المستقل والمختلف ويعتبرونه تهديداً وتحدياً.
قد يكون المتشابه المتطابق المستنسخ مسلحاً بالخسة والكذب والعاهات بلا سلاح مادي لكنه لا يقل عن الارهابي فتكاً ودماراً في التشنيع والنفاق ومطاردة المختلف.
الفوارق هائلة بين المتطابق وبين المثقف النقدي، في الجوهر الخلاف على شرعية الحقيقة والعدالة.
هي مشكلة المثقف ذاتها مع السلطة الاجتماعية، المبادئ المختلف عليها ذاتها،الاسلوب ذاته. السلطة الاجتماعية تصب روافدها في السلطة السياسية وهذه نسخة طبق الاصل من الأولى.
لكن لماذا يخاف ويشنع ويكره المستنسخ والمتطابق الببغاء المثقف المعرفي المختلف وهو لا يحمل سوى سلاح الكلمات وليس زعيم حزب ولا قائد جيش ولا عضوا في نظام ولا صاحب عقارات؟
عادة ما يغلف هؤلاء هذه الكراهية بأقنعة، لكن يبقى خطاب المثقف عن الحقيقة هو الفضيحة لأنه مسالم وخلافه معهم ليس حول شركة أو منصب أو عقار أو أملاك، بل حول أفكار مما يجعل فضيحتهم مدوية،
وكما السلطة تحاول طمس الحقيقة، يقوم هؤلاء بالدور نفسه بخلق ذرائع كاذبة للاختلاف.
المختلف تهديد وفضيحة الشبه.
يذهب المستنسخ المتشابه الى أقصى حدود الاستهتار بتطابقه مع الجميع عكس دور المثقف المعرفي او العضوي بلغة غرامشي،
في حين يذهب المختلف وحيداً الى أقصى حدود الاختلاف المعرفي
لأجل الحقيقة دون حساب العواقب:
الأول، المستنسخ، صبّاغ.
الثاني، المختلف، خالق.
لن تتغير السلطة السياسية بلا تغيير السلطة الاجتماعية وليس العكس لان المجتمع هو جوهر الهيمنة والقائد الفعلي للدولة،
لأن قادة السلطة والدولة يحملون معايير واخلاق وثقافة وتراث وعقلية المجتمع المنتج لهم ولم يهبطوا من مجرات .
في الثقافة السياسية السائدة عندنا يجري التركيز في لعن ونقد السلطة،
مع نسيان تام للرحم والبيئة والمناخ والعقلية المنتجة لها. يحاول البعض زرع الأوهام في انه معارض للسلطة لكن لغته تفضحه في أنه منسجم معها في كل شيء ، في اللغة، والاقصاء، وذهنية الكراهية، والمحو، والاحتكار . هل يعلم بذلك؟ لا، لأن العقل العاجز الملقن غير قادر على فحص وتأمل نفسه بنفسه بل يحتاج الى ثقافة مضادة بديلة وهو كالكلب الهرم عاجز عن تعلم عادة جديدة. أفرغته السلط والأحزاب من كل محتوى وتركته ينبح في الظلام والشارع فارغ من المارة .
مشكلة المختلف اليوم ليست كما في القرون السابقة كما في زمن فولتير ونيتشه وروسو حيث كانوا يكتبون لاقناع الاذكياء لكن اليوم صارت الكتابة لاقناع الاغبياء وتلك مهمة شاقة فكيف تثبت بالمنطق لشخصية تفسر كل شيء بالهراء؟
حالة العرب ثقافة سطحية بلا سياسة وسياسة سطحية بلا ثقافة وصراعنا اليوم في الاتجاه الخطأ لأن المعركة الحقيقية د.اخل” المجتمع السياسي” في البيوت والمدارس والمؤسسات والجامعات والاندية والثكنات ومراكز الشرطة ودور العبادة من خلال معركة الوعي في زمن جهز فرصة من خلال وسائل التواصل.
بين قائل إن هؤلاء النسخ والاشباه والجوقة سلطة بالمعنى المجهري
للسلطة كمعايير وعقلية وطريقة تفكير حتى لو في موقع المعارضة المظهري، وبين قائل إن هؤلاء صورة مجتمع. بكل تلقائية يتحدث هؤلاء عن” كراهية” المختلف دون وعي ان الكراهية على وجهة نظر ضحالة أخلاقية قبل أن تكون ضحالة وسطحية ثقافية لأن الشر نفسه سطحي بلا عمق.
في كل الأحوال المثقف المختلف فضيحة المتطابق ، كما أن الأعزل فضيحة المسلح.
المختلف غريب غربتين، غربة النوع وغربة الشكل كطائر الكناري في حقل الغربان،
يمضي وحيداً في غابات الاحتراب ويهطل كالمطر لأيام مختبئة في الجذور،
لكنه المغني الأخير يوم ينتهي حفل الزور ويهدأ التاريخ من عربدته،
لأنه وعد وعلامة وبشارة يعيش بين الفراشة والطاعون.
إنه مهيار الدمشقي الذي بشّر به أدونيس:
” يقبل أعزل كالغابة وكالغيم لا يرد. مهيار وجهٌ خانه عاشقوه. مهيار أجراس بلا رنين. مهيار أغنيةً تزورنا خلسةً في طرقٍ بيضاء منفيه. مهيار ناقوس من التائهين في هذه الأرض الجليلية”.
هو الوحيد الباقي يوم تكنس الأيام غبارها كماسحة زجاج السيارات ، فإنما الأيام مثل السحاب كما تقول الأغنية.