المَعرفة مِطرقة تحطيم الوثنيّات: رِحلة الإنسان نحو تحرير العقل…بقلم حيدر البرهان

المَعرفة مِطرقة تحطيم الوثنيّات: رِحلة الإنسان نحو تحرير العقل
“تَاريخ المَعرفة هو المِطرقة الأقوى في يَد الإنسان لتحطيم وثنيّة الجَهل”، هذه العبارة تُلخّصُ الرِّحلةَ الطويلةَ للعقل البشريّ في صِراعه الأبديّ ضدَّ الأوهام والسُّلُطات المُطلقة. فالمعرفة، بِجوهرها النِّسبيّ والمُتغيّر، تظلُّ القُوَّةَ الوحيدةَ القادرةَ على مُواجهةِ ما تَعتبره البشريّةُ “حقائقَ دامغة”، لتَكشفَ زيفَها وَتَعُودَ فَتهدمَها مَرَّةً أُخرى في دورةٍ لا تَنتهي.
المَعرفة كَسِلاح ضدَّ وثنيّات الماضي
لطالما شكَّلَ الجَهلُ أرضًا خصبةً لِولادةِ الوثنيّاتِ الفكريّة، سواءً كانت دينيّةً أو سياسيّةً أو اجتماعيّة. فَفي العُصورِ القديمة، انتشرتِ الأساطيرُ لِتفسيرِ الظواهرِ الطبيعيّة، وسُرعانَ ما تَحوَّلتْ إلى مُسلَّماتٍ لا يُمَسُّها الشَّك. لكنَّ ظهورَ الفَلاسفةِ الأوائلِ في اليونانِ مَثَّلَ الضَّربةَ الأُولى بِمِطرقةِ المَعرفة، عندما استبدلوا التَّفكيرَ الأسطوريّ بِالتَّفكيرِ العقلانيّ. فَطاليسُ لم يَقُلْ أنَّ الزلازلَ غضبُ الآلهة، بلْ حاولَ تفسيرَها بِطُرُقٍ ماديّة. كانتْ هذهِ البَدَاياتُ البسيطةُ ثَورةً حقيقيّةً ضدَّ وَثنيّةِ الجَهل.
ومعَ قُدومِ العُصورِ الوُسطى، أصبحتِ الكنيسةُ السُّلطةَ المَعرفيّةَ المُطلقة، وَحَوَّلتْ تفسيراتِها إلى حقائقَ دامغةٍ لا يُناقشُها إنسان. لكنّ المِطرقةَ عادَتْ للِانقضاضِ معَ كُوبرنيكوسَ وغاليليو، اللذينَ حطَّما وَثنيّةَ مركزِيةِ الأرضِ بِرَصاصَةِ المُلاحظةِ والتَّجربة. لقدْ كُفِّرَ العالمانِ لأنَّهما تَجَرَّءا علىَ “الحَقائقِ الدامغة” لِعصرِهِما، لكنَّ تاريخَ المَعرفةِ كانَ إلى جانِبِهِما.
المَعرفةُ كَعمليةٍ لا تَتوقَّف: تَهديمُ الأوهامِ الجَديدة
لا تَقفُ المَعرفةُ عندَ حَدٍّ، فَما نَعتبرُهُ اليومَ حقيقةً علميّةً قدْ يصبحُ غدًا مجرَّدَ خَطأٍ في التَّفكير. هكذاَ تَعمَلُ مِطرقةُ المَعرفةِ بِدَورَةٍ مُستمرّة: تَهديمُ الأوهامِ القديمةِ لِتخلقَ “حقائقَ” جديدةً، ثُمَّ تَعودُ فَتَهدُمُ هذهِ الحقائقَ نفسَها عندما تَتطوَّرُ أدواتُ الفَهم. فَنَظريةُ نيوتنَ في المِيكانيكا أصبحَتْ مَرجعيّةَ العِلمِ لِقرون، إلى أنْ جاءَ آينشتاينُ لِيُظهِرَ محدوديّتَها في السُّرَعِ العالية. الحقيقةُ الدامغةُ بالأمسِ أصبحَتْ حالةً خاصّةً مِنَ الحقيقةِ الأعمّ اليوم.
حتّى في المَجالِ الاجتماعيِّ والسياسيّ، تَعمَلُ مِطرقةُ المَعرفةِ بِفَعالية. فَالنَّظرياتُ الاقتصاديّةُ التي كانتْ تُعتبرُ مُقدَّسةً تتهاوَى أمامَ أزماتٍ جديدة، وَالنُّظمُ السياسيّةُ التي بدَتْ أبديّةً تَنكشِفُ هشاشَتُها عندما تُواجهُ بِمَعرفةِ الجماهيرِ وَوعيِها. الفاشيّاتُ بِأنواعِها تَبني سُلطَتَها علىَ وَثنيّاتٍ فكريّةٍ تزعمُ امتلاكَ الحقيقةِ المُطلقة، لكنَّها تسقُطُ أمامَ قُوَّةِ المَعرفةِ التَّحرريّة.
المُعضلةُ الأخلاقيّة: مَن يَحمِلُ المِطرقة؟
لكنْ ثَمّةَ سُؤالٌ جوهريّ: إذا كانتِ المَعرفةُ مِطرقةً تحطيميّة، فَمَن يَضمنُ أنَّ استخدامَها سيكونُ أخلاقيًّا؟ History of knowledge is not just a history of liberation, but also a history of new dogmatisms. فالمعرفةُ قدْ تتحوّلُ إلى وَثنيّةٍ جديدةٍ إذا ما أُلبسَتْ ثوبَ الحقيقةِ المُطلقة. العِلمُ نفسُهُ، وهوَ أَقوى أَدواتِ المَعرفة، استُخدِمَ لِتبريرِ العُنصريّةِ وَالإبادة. فَكيفَ نَضمنُ أنْ تَبقى المَعرفةُ أداةَ تحريرٍ لا استعباد؟
الجوابُ يَكْمُنُ في طبيعةِ المَعرفةِ نفسِها. فالمعرفةُ الحقيقيّةُ هيَ تلكَ التي تَحمِلُ في داخِلِها جيناتُ نقدِ ذاتِها، التي تَرفضُ التحوّلَ إلى دوجما. المِطرقةُ يجبُ أنْ تَبقى في يَدِ العقلِ النَّقديِّ لا في يَدِ السُّلطةِ بِمُختلفِ أشكالِها. المعرفةُ التي لا تَشكُّ في نَفسِها تتحوّلُ إلى جَهلٍ أشدَّ خُطورة.
خاتمة: المِطرقةُ التي تَبنِي
التَّاريخُ يُعلّمنا أنَّ المَعرفةَ ليستْ مجرَّدَ تراكمٍ للِعلومات، بلْ هيَ ديناميكيّةٌ ثوريّةٌ تَهدمُ ما يُعتبرُ راسخًا. إنّها المِطرقةُ التي تحطّمُ وثنيّاتِ الجهل، لكنّها في الوقتِ نفسِهِ البِذرةُ التي تَنمو منها مَعارفُ جديدة. قدْ تكونُ هذهِ الرِّحلةُ مُتعبةً وغيرَ مَضمونةِ النَّتائج، لكنَّها الرِّحلةُ الوحيدةُ التي تليقُ بِإنسانٍ يطمحُ إلى الحُرية.
فَلْنَحْمِ مِطرقةَ المَعرفةِ منْ أنْ تتحوّلَ إلى وَثنٍ جديد، ولْنَحرصْ علىَ أنْ تَبقى أداةَ تحريرٍ دائم، لأنَّ التَّحديَ الأكبرَ ليسَ في تحطيمِ أوهامِ الأمس، بلْ في عدمِ الوقوعِ في أوهامِ اليومِ والغد.