رؤي ومقالات

مصطفي السعيد يكتب :بمعلمي الحقول والأطباء الحفاة بدأت المعجزة الصينية

عندما انتصرت الثورة الصينية عام 1949 كانت الصين في حالة مروعة من البؤس، 22 عاما من الحرب الأهلية، وحرب ضد الإستعمار الياباني وقبلها حرب مع بريطانيا، وكان ضحايا حرب الأفيون بالملايين بعد أن أجبرت بريطانيا الصين على حرية تجارة وتعاطي الأفيون تحت تهديد المدفعية .. عشرات الملايين من القتلى والمعاقين، وجهل مستشري، وفقر مدقع، الأغلبية العظمى من الفلاحين المعدمين .. هرب تشانج كاي تشيك قائد قوات الحزب القومي “الكومينتانج” إلى جزيرة تايوان بما تبقى من جيشه المهزوم بعد الحرب الأهلية الطويلة، وأصبح تحت حماية حلف الناتو، فلم تتمكن قوات جيش التحرير الشعبي بقيادة ماو تسي تونج من العبور إلى الجزيرة.
بدأت مسيرة الصين بالقضاء على الجهل المتفشي، ونظم الحزب الشيوعي حملة تعليم الفلاحين المعدمين وأبنائهم، وخصصوا أعدادا كبيرة من التطوعين تتوجه إلى الحقول، لتعلم الفلاحين في أوقات الراحة، بالتوازي مع حملة أخرى للرعاية الصحية، ولم يكن لدى الصين إلا أعدادا قليلة جدا من الأطباء، فقررت اختيار عدد من الفلاحين النابهين، بمن فيهم الأميين، وجعلت منهم جيشا طبيا، ونظمت لهم دورات في علاج الأمراض الأكثر فتكا وانتشارا، وأعطت كل منهم كيسا من القماش فيه كمية من الأدوية، وأدوات فحص بسيطة وأمصال للأطفال مثل أمراض الشلل والحصبة وغيرها، وكان الأطباء الحفاة يخوضون في مياه زراعة الأرز، ويصلوا إلى القرى النائية لعلاج المرضى، بعدها بدأت حملة تجفيف المستنقعات التي كانت تنشر الأوبئة.
الخطوة التالية كانت تكثيف التصنيع، لكنها كانت مليئة بتحديات صعبة جدا، فلا يوجد عمال ولا مصانع ولا أدوات، فبدأت حملة لجمع الفلاحين الأكثر نباهة، ومن يعرفون القراءة ولو بشكل محدود، وأخذت تبحث عن المعادن، خاصة الحديد، ثم بنت أفرانا في كل قرية، يرمي فيها السكان ما يستطيعون من معادن الاواني أو ما يعثرون عليه من البقايا المعدنية، مثل الحديد والألومنيوم والنحاس وغيرها، لكن الأفران القروية أنتجت سبائك معادن رديئة بالطبع، لكنها كانت البداية التي تحسنت بالتدريج. كان قد جرى توزيع أراضي الإقطاعيين على الفلاحين، ثم بدأ ماو تنفيذ “المزارع الجماعية”، أي أن الأرض تكون لجميع الفقراء بشكل جماعي، لكن التجربة تعثرت لأسباب كثيرة، وسعت الرأسمالية العالمية المحلية إلى التشهير بالتجربة، ونسبت إليها مجاعة كبرى حدثت في نفس الفترة، وبالغت في أعداد الضحايا، لكن لم تكن المزارع الجماعية هي السبب الوحيد للمجاعة، فالصين تعرضت لأكثر من 1800 مجاعة في أقل من 2000 عام، فالمجاعات أمر معتاد في الصين، فيضانات مدمرة ثم قحط شديد مع الأوبئة الواسعة، لكن ما زاد من تأثير المجاعة التي تعرضت لها الصين في عام 1959 أن ماو نقل أفضل الفلاحين للعمل في الصناعة، وأن المدن استحوذت على نسبة أكبر من المحاصيل، بالإضافة إلى الفيضانات والقحط والأوبئة، لكن جرى توجيه التهمة إلى المزارع الجماعية وحدها، وأن الفلاحين فيها لا يعملون بجد مثل أراضيهم المملوكة فرديا لهم. لا يمكن تبرير الأخطاء في مسيرة طويلة وصعبة وغير مسبوقة كالتي مرت بها الصين، لكن كانت هناك مبالغات لتشويه التجربة الصينية، وهذا أمر طبيعي أيضا من جانب بلدان استعمارية قوية، وأصحاب مصالح لديهم قدرات كبيرة، وأكثر تأثيرا على الرأي العام وهم من تكتبون الوقائع والتاريخ ويسيدون وجهات نظرهم. مثال ذلك أن تشانج كاي تشيك كان يرتكب مذابح مروعة ضد كل من يتم الإشتباه في أنه يناصر الحزب الشيوعي الصيني، وفي مجزرة واحدة قتل ما يزيد عن 30 ألفا في مدينة واحدة والقرى المحيطة بها، لكنك ستجد في الوكيبيديا أنها كانت عملية “تطهير” من الأفكار الشيوعية، أي أن قتل المشتبه في أنهم شيوعيين يسمى تطهيرا، أما عندما قام ماو بما أسماه الثورة الثقافية، وضحاياها أقل بكثر، وكانت في أغلبها إساءات معنوية بمن يرون أنهم يروجون للأفكار الرأسمالية، ويناهضون الإشتراكية، وجرى تضخيمها وهذا طبيعي جدا، لكنها لا تخلو من تجاوزات وانتهاكات وصلت إلى الإعدام أحيانا.
المهم أن مسيرة المعجزة الصينية حققت التصنيع السريع والمكثف، وقضت على معظم الأمية، ورفعت معدل الأعمار، ووفرت العلاج والتعليم بالمجان، ولهذا مازال ماو رغم كل ما ناله من تشهير يعد شخصية لها قدسيتها لدى الصينيين حتى الآن.
هناك عامل لا يمكن إغفاله في الثقافة الصينية، وهي تأثير المعتقدات، فأهم المعتقدات في الصين هي الكونفوشيوسية يليها البوذية والطاوية. كان كونفيشيوس معلما، واسمه الحقيقي كونك فو دزه، ولد عام 551 قبل الميلاد، مات أبوه وهو طفل، أحب العلم، رفض العمل بتعليم أولاد الأمراء والأثرياء، ونذر حياته لتعليم الفقراء، ركز في تعاليمه على الأخلاق والسلوك القويم والحكم العادل، ثم وصفوه بالمعلم والحكيم، ومن هنا جاءت تسمية “كونفيشوس” أي المعلم والحكيم، وله كتب عن الأخلاق والتربية والسلوك والتاريخ، لكن هناك من حاولوا تحويله إلى قديس بعد موته، لكنه لم يتطرق إلى الحياة بعد الموت، ونشأة الحياة وغير ذلك. وكذلك كانت البوذية والطاوية، وإن اختلفت في بعض التفاصيل، لكن تلك التعاليم ظلت جزءا من مكونات الشعب الصيني، ولم يحارب الشيوعيون تلك التعاليم، بل واجهوا محاولات تحويلها إلى أديان وطقوس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى