كتاب وشعراء

حسين الغزي يكتب :النفاق وأثره الهدّام في بنية الفرد والمجتمع:

في مسار التاريخ الإنساني، ظلّ النفاق واحدًا من أخطر الظواهر التي نخرت في بنية المجتمعات من الداخل، وأثّرت على مسارات تطورها الأخلاقي والسياسي والاقتصادي والثقافي. ليس النفاق مجرّد خلل سلوكي فردي يمكن تجاوزه بسهولة، بل هو منظومة متكاملة من الأقنعة المتبادلة، تتسرب إلى نسيج الحياة العامة والخاصة، فتشوه القيم، وتزيّف الوعي، وتفسد العلاقات الاجتماعية، وتؤسس لمجتمعٍ يعيش على التناقضات بدلًا من أن يبني نفسه على الحقيقة والصدق. إنّ النفاق بأشكاله المتعددة ليس مجرد فعلٍ يقوم به المنافق في لحظة مصلحة عابرة، بل هو طريقة في التفكير والوجود، تنطوي على تزييف الواقع وتجميل الزيف وإخفاء القبح تحت أقنعة لامعة.
في مستواه الاجتماعي، يشكّل النفاق أحد أهم أسباب الانقسام الخفي داخل الجماعات البشرية. فحين يفقد الناس الثقة في صدق بعضهم بعضًا، ويتحول التواصل إلى تبادلٍ للأقنعة بدلًا من تبادلٍ للحقائق، تتآكل الروابط الاجتماعية من الداخل. يبدأ ذلك من تفاصيل بسيطة: مجاملات فارغة، مدائح لا تعبّر عن قناعة، مواقف ظاهرها الدعم وباطنها الحسد أو الحقد. هذه التفاصيل الصغيرة تتراكم لتشكّل مناخًا اجتماعيًا خانقًا، لا يشعر فيه الإنسان بالأمان النفسي أو بالانتماء الحقيقي، فينكمش على ذاته أو يصبح جزءًا من لعبة الأقنعة بدوره. إن المجتمع الذي يعتاد أفراده على النفاق يفقد تدريجيًا قدرته على ممارسة النقد البنّاء، وعلى تطوير ذاته من الداخل، لأنه يفضل التزيين على المواجهة، ويغض الطرف عن الأخطاء خشية الاصطدام بالحقائق المؤلمة. وهكذا يصبح النفاق الاجتماعي حائلًا دون تشكّل بيئة صحية تسمح بتطور الفرد والمجموعة معًا.
أما على المستوى السياسي، فإن النفاق يتحول إلى أداة من أدوات السلطة، وإلى وسيلة من وسائل البقاء على القمة في هرم القوة. في الأنظمة التي تضع الولاء فوق الكفاءة، يصبح النفاق السياسي هو الطريق الأسرع إلى المناصب والنفوذ. يتعلم الناس أن يقولوا ما تريد السلطة سماعه، لا ما ينبغي قوله. فيتحول الخطاب السياسي إلى سلسلة من الشعارات المنمقة التي لا تعبّر عن الواقع، بل تسعى إلى تزييفه أو طمسه. ومع الوقت، تتكلس هذه الحالة وتصبح جزءًا من بنية الحكم والإدارة، بحيث يُقصى الصادقون، ويُكافأ المزوّرون، ويُنشأ جيل كامل من الانتهازيين الذين يتقنون فن التمويه والخداع. هذه الحالة تخلق فجوة هائلة بين الحاكم والمحكوم، وبين القول والفعل، وبين الصورة والحقيقة، فتضعف ثقة الناس في المؤسسات، وتنشأ حالة من اللامبالاة العامة، ويستحيل إصلاحٌ حقيقي في ظلّ هذا المناخ. كما أنّ النفاق السياسي يقتل روح المبادرة والمحاسبة، لأن المنافقين لا يواجهون الأخطاء بل يبررونها، ولا يسعون للإصلاح بل لحماية مواقعهم، فتتراكم الأزمات حتى الانفجار.
وفي المجال الاقتصادي، يتخذ النفاق شكلًا أكثر خفاءً لكنه لا يقل خطورة. يظهر ذلك في تزييف جودة السلع والخدمات، وفي الإعلان الكاذب، وفي المجاملات التي تغطي على الفساد والمحسوبيات. الشركات التي تتظاهر بالالتزام الأخلاقي بينما تمارس الغش في الخفاء، والأفراد الذين يظهرون النزاهة بينما يسعون إلى الربح غير المشروع، يشاركون جميعًا في خلق اقتصاد هشّ، يقوم على الخداع أكثر مما يقوم على الإنتاج الحقيقي. هذا النوع من النفاق يضعف المنافسة العادلة، ويقوّض ثقة المستهلكين، ويشجع على سلوكيات غير منتجة تركز على المظهر بدلاً من الجوهر. ومع مرور الوقت، يتحول الاقتصاد إلى شبكة من المصالح الضيقة المغلقة على نفسها، حيث يتم تبادل المنافع بين مجموعات محددة على حساب الصالح العام، وتغيب العدالة الاقتصادية التي تشكل الأساس لأي نهضة حقيقية. إن النفاق الاقتصادي لا يؤدي فقط إلى الغش والخداع، بل يضرب في العمق القيم التي يقوم عليها العمل والإنتاج، ويحوّل الاقتصاد إلى أداة للهيمنة لا للتنمية.
أما النفاق الفكري، فهو الأخطر من بين جميع الأشكال، لأنه يتسلل إلى العقول ويشكّل طرائق التفكير نفسها. حين يدّعي المثقف أو المفكر أو الكاتب أنّه يدافع عن قيم أو مبادئ بينما يهدف في العمق إلى خدمة مصالحه أو مصالح جماعة معينة، فإنّه لا يضلل الآخرين فحسب، بل يضلل ذاته أيضًا. يتحول الفكر إلى أداة تبرير بدلاً من أن يكون أداة نقد واستنارة، وتُفرغ المفاهيم من محتواها الحقيقي وتُستخدم لتغطية الانحرافات الفكرية أو الأخلاقية. في هذا المناخ، تضعف القدرة على التمييز بين الحقيقة والزيف، ويُربّى جيل كامل على خطابٍ فكري مزدوج المعايير، يسمع شيئًا ويشاهد نقيضه. هذا النوع من النفاق يجعل الحوار الثقافي سطحياً ومشوهاً، ويدفع الناس إلى فقدان الثقة في النخب الفكرية، فيحدث الانفصال الخطير بين الفكر والواقع.
ولا يقل النفاق الأدبي خطرًا، لأنه يفسد الذوق ويشوّه القيم الجمالية. حين يتحول الأدب إلى أداة تملّق، سواء للسلطة أو للجمهور، يفقد دوره التنويري ويصبح مجرد وسيلة لترويج الزيف. الكاتب أو الشاعر الذي يمدح ما لا يؤمن به، أو يتجاهل القضايا الجوهرية خوفًا أو طمعًا، يساهم في بناء ثقافة قائمة على الانخداع المتبادل. كما أن الوسط الأدبي الذي يكافئ المديح الزائف ويتجاهل الإبداع الصادق، يشجع على الرداءة ويُقصي الأصوات الأصيلة، فتضعف الحركة الأدبية، وتتحول إلى صدى لخطابٍ مهيمن بدل أن تكون بوصلة للوعي والذوق العام.
الآثار السلبية للنفاق على بناء المجتمع لا تقتصر على المستويات الظاهرة، بل تمتد إلى الأعماق النفسية والمعرفية. فالمجتمع الذي يتغلغل فيه النفاق يصبح تدريجيًا مجتمعًا منقسمًا على ذاته، غير قادر على بناء رؤية مشتركة للمستقبل، لأن كل فردٍ فيه يحمل قناعتين: واحدة يعلنها وواحدة يخفيها. هذا الانشطار الداخلي يولّد حالة من التوتر والقلق الجماعي، لأن الحقيقة تصبح غير واضحة، والمعايير الأخلاقية تفقد استقرارها، ويغدو التمييز بين الخير والشر أمرًا نسبيًا يحدده الموقف والمصلحة لا المبدأ. ومع مرور الزمن، يتكيف الناس مع هذه الحالة فيفقدون حساسيتهم تجاه الزيف، ويصبح النفاق هو «الطبيعي» بينما الصدق يُنظر إليه كتهور أو سذاجة.
من المنظور العلمي، يمكن القول إن النفاق يضعف ما يسمى بـ «رأس المال الاجتماعي» للمجتمع، أي شبكة الثقة والمعايير والقيم المشتركة التي تسهّل التعاون والتطور. فكلما زاد النفاق قلّت الثقة، وكلما ضعفت الثقة تراجعت القدرة على بناء مؤسسات فعالة ومستقرة. المؤسسات لا تقوم على القوة فقط، بل على الشرعية، والشرعية لا تُبنى في بيئة من التناقض والخداع. كما أن النفاق يعطل عملية «التغذية الراجعة» الضرورية لأي نظام اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي؛ فحين لا يُقال الصدق، لا يمكن تشخيص الأخطاء بدقة، ولا يمكن بالتالي تصحيحها، فيحدث تراكم للأعطاب البنيوية التي تعيق أي تقدم حقيقي.
وعلى مستوى الفرد، فإن النفاق يخلخل التوازن الداخلي بين الفكر والسلوك، فيعيش الإنسان في صراع بين ما يؤمن به وما يعلنه، وبين ما يريده لنفسه وما يقدمه للآخرين. هذا الصراع يولّد مشاعر دائمة من القلق والاغتراب والازدواجية، وقد يؤدي مع الوقت إلى ضعف الهوية الشخصية وانهيار المعايير الذاتية، إذ يفقد الفرد القدرة على أن يكون صادقًا حتى مع نفسه. كما أن المنافق يضطر دومًا إلى مراقبة أقواله وأفعاله خوفًا من انكشافه، مما يستهلك طاقته النفسية ويحرمه من الإبداع العفوي والتعبير الصادق.
في المحصلة النهائية، لا يمكن لمجتمعٍ يترسخ فيه النفاق بأشكاله المتعددة أن يبني حضارة متينة أو يحقق تنمية حقيقية. فالنفاق، مهما بدا أحيانًا وسيلةً لتجنب الصدام أو للمحافظة على الاستقرار الظاهري، هو في جوهره تدمير بطيء للمقومات الداخلية للمجتمع. إنه يجعل المجتمع يعيش في حالة من الانفصام بين ما يقال وما يُفعل، بين الصورة والجوهر، بين الظاهر والباطن، فيتحول الكيان الجمعي إلى مسرحٍ كبيرٍ للتمثيل، لا إلى بنية صادقة يمكن أن تنمو وتتطور.
إن مواجهة النفاق لا تكون بالشعارات أو بالمواعظ الأخلاقية فقط، بل بتأسيس بيئة مؤسسية وفكرية تشجع على الصدق والمساءلة والنقد البنّاء. فحين يشعر الفرد أن قول الحقيقة لن يعرّضه للإقصاء أو العقاب، وأن المؤسسات تكافئ الصدق والكفاءة لا التملق والخداع، يبدأ المجتمع بالخروج تدريجيًا من دائرة النفاق إلى دائرة الصراحة والشفافية. كما أن التربية على قيم الوضوح والصدق منذ الطفولة، وبناء ثقافة نقدية حرة، تعد من أهم الوسائل لقطع الطريق أمام النفاق قبل أن يصبح جزءًا من البنية الذهنية والسلوكية للأفراد.
وهكذا يتضح أن النفاق ليس مجرد ظاهرة أخلاقية هامشية، بل هو أحد أخطر التحديات التي تواجه بناء المجتمعات الحديثة، لأنه يضرب في عمق البنية النفسية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية والأدبية. والتعامل معه يتطلب وعيًا فلسفيًا عميقًا يدرك جذوره وآلياته، كما يتطلب إرادة جماعية صادقة لإعادة بناء القيم والمعايير التي يقوم عليها التفاعل الإنساني. فالمجتمع الذي ينتصر على النفاق، هو المجتمع الذي يختار الحقيقة رغم صعوبتها، ويمتلك الشجاعة ليكون صادقًا مع نفسه أولًا، ومع الآخرين ثانيًا، ويؤمن أن لا نهضة حقيقية تُبنى على الزيف، مهما كان هذا الزيف أنيقًا وبراقًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى