كتاب وشعراء

رمزية الكلمات وأسئلة النص من خلال المجموعة الشعرية ( أرض بلا سماء ) نموذجا للروائية والشاعرة التونسية فاطمة بن محمود ….بقلم الهادي عرجون

 
هناك على أطراف الغابة توشوش الشاعرة فاطمة بن محمود للريح وهي تطل عليها بثوبها الغابي تعكس من خلاله مظاهر الحرية والانعتاق والتحرر حين تنزع كآبتها وحزنها على ضفة النهر وتسبح بمشاعر الفرح وتغوص في أعماق أعماقها وهي تلتقط أصداف مشاعرها لتلقي بها على بساط الأرض وترسم بقلمها أفقا جديدا نحو الخيال، بأسلوب مختلف يعبر عن مشاعر الحزن والكآبة والانعزال، لنغوص في المحتوى وكوامن المجموعة الشعرية (أرض بلا سماء)، الصادرة عن دار الثقافية للنشر / المنستير – تونس، والتي ضمت بين طياتها نصوص تزدحم فيها المشاعر بالإيقاع والوجع بالألم، لترسم على شفاه النهر الذي ألْهَم الشعراء أصوات الغياب، لتولد من عناق العشاق قصائد أضفت عليها شاعرتنا أنفاسها وأعطتها من عبق روحها ونبضها. لتشهد خصومة الحياة مع الحياة حين تعطيك مفاتيح القراءة التي لا غنى عنها من أجل الدخول إلى عالمها الشعري.
لا أخفيكم سرا أنني تصفحت المجموعة الشعرية (أرض بلا سماء)، أكثر من مرة، ومن ثلاث رؤى مختلفة ( قارئ و شاعر و ناقد )، فالمتفق عليه عند أغلب المهتمين هو أن القراءة الأولى لأي أثر إبداعي يتطلب بدوره قراءة ثانية وثالثة ربما أكثر إمعانا في النص الأدبي سواء كان شعرا أم نثرا وهو ما يفتح بصيرتنا على الأفكار والصور التي يبثها الشاعر أوالكاتب في المتلقي لنعيشها ونتعايش معها بفكرنا وشعورنا نلاحقها، ونغوص في كوامن غموضها ونعري خباياها ونكشف رموزها. ولقد لمست فيها خصوصيات جمالية ودلالية تعكس تجربة صاحبتها.
شِعرها ليس كشِعر النساء المألوف لدى العامة المليء بالغنج الأنثوي الواضح والدلال فهو شعر يحمل في جوانبه رسالة شاعرة متمرسة تدرك كنه الألفاظ والكلمات التي تبثها في نصوصها مع جزالة المعنى وجمال الصورة، فالكلام عندها كما الكتابةُ فعل خَلْق وتعبير وإبداع، فعل تجسيد لأصوات الحروف والمعاني، التي تتجسد في شكل كلمات لها معاني ودلالات في شكل صور وأفكار، وإبداع، يمس الحواس جميعا. “ففِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ” (إنجيل يوحنا 1:1)، فلا غرابة أن تعتمد الشاعرة في زخرف نصها على تكرار العبارات والألفاظ التي تعبر عن فعل القول بالكلمة لتبسط نفوذ سلطتها على النص، وهو ما يمكن اعتباره نفسا لا شعوريا أخذ من هندسة الشاعرة الروحية في بناء نصها حيث نجد تكرار ثيمة (الكلمة) بمختلف إشتقاقاتها اللفظية إلى حوالي 26 مرة في أغلب نصوص المجموعة.
” كلمة صغيرة
بحجم حصاة،
يكفي أن ترميها
وسط هذه البحيرة التي
أسميها حياتي،
كلمة واحدة
تجعلني أقفز في الهواء
ضاحكة”(ص47).
فالكلمة هي الكلمة الطيبة التي تحتاجها المرأة، هي القصيدة التي تتمدد داخلها، والقصيدة وجبتها الدسمة التي تبحث عنها لتكتبها أو تقتنصها كفريسة تضع فوهة المسدس على رأسها لتكون وليمتها الفاخرة.
“لا تحتاج المرأة باقة ورد
لا تحتاج المرأة قهوة وقصائد
أحتاج فقط:
كفّ دافئة
تحضن قلبي”(ص55).
فالشاعرة تؤمن تمام الإيمان بأن الكلمة بمفردها قادرة على أن تمنح الأشياء وجودها لتكون المرأة ويكون القصيد، وتكون القصائد بوابة العبور من أمل الوجود إلى الإيمان بأنوثتها ودورها الرئيسي في الحياة، إلى الخلق والابداع إلى الايمان بالنص المنشود. لتكون في حضرة الشعر تنهل من مشكاته ليكون القصيد همزة الوصل، ومركب النجاة، ومصدر الحياة.
” المرأة التي تكتب الآن
قصيدتها
لا أعرفها،
تختار من أكداس اللغة
كلمات مشردة
تجعل من أعصابها
خيطا.. يشدها.”(ص73).
فالمتتبع لمعجم الكتابة الذي اعتمدته الشاعرة يلاحظ ذلك الكم الهائل من المشاعر المدفونة في دفتي الكتاب فهي المرأة العاشقة والأم والكاتبة والشاعرة التي تعجن خبز الكلمات لتضع قلبها بين يديها.
فهي بذلك تنسج من ذاكرها وذكريات الطفولة أملا في الخلاص وأملا في الانعتاق والتحرر من سلطة الروح الغريبة عن جسها لتكسر قاعدة النظام التي منحت أفكارها للفوضى ترتبها ليخرج النص عن سياق المألوف لكشف الفكرة وتعرية المرامي التي تريد الشاعرة إيصالها للمتلقي.
” يحتاج أطفالي أشياء
على امتداد النهار
أوفرها بهمّة و نشاط
قهوة دافئة
أغمّس فيها ابتسامتي
طعام شهيّ مثل الأحلام
قلب فسيح يسع فوضاهم.”(ص33).
ليظهر التمرد، التمرد النفسي والشعري على قيود الكتابة النسوية المتعارف عليها عموما ليغدو أسلوبها سراجا ينير قصائدها يمارس سطوته على الكتابة، مما يجعل نصها منفتح على تموجات وجدانية وانعطافات نفسية قاده تكرار بعض الجمل الشعرية (في الغابة المطيرة)، (أحب النافذة الوحيدة)، (في بيتنا طالة)، (الطبق المكسور)، (يمر الوقت سريعا)…، أو الكلمات لتعيدنا الشاعرة إلى التشكيلات الجمالية على طول المقاطع في الديوان فيتجلى حضور لفظ (القلب، الحزن، الاحلام، الذكريات… ) وغيرها من الألفاظ وهو تكرار متعمّد في الديوان مرده الإيقاع السريع للألفاظ والكلمات مع كثافة الصور.
” في جزيرة منعزلة
أجهد ذاكرتي ﻷستعيد
نصائح بير غريلز
حتى أحافظ على البقاء
و أتذكر كيف أنبتُ النّار
في كومة الذكريات،
أدُسّ صنّارة في نهر اﻷشواق
أقتنص قصيدة
تكون وليمتي الفاخرة،”(ص12).
حيث نلاحظ أن الشاعرة في زخرف نصها اعتمدت على تكرار العبارات والألفاظ والتي يمكن اعتبارها نفسا لا شعوريا أخذ من هندسة الشاعرة الروحية في بناء نصها حيث نجد تكرار لفظ (البيت) حوالي 21 مرة في أكثر من موضع معتمدة على جنسنة اللفظ وإعطائه روحا إنسانية وأوصاف أخرى حسية.
” بيتي مرتبا كما أحب
الصالون مبتسم
من فرط النظافة
طاولة الأكل و المزهرية الجميلة،
الصحون و الأطباق و الفناجين
تلمع مثل عيون الأطفال
في يوم العيد.
أنفق أكداس من الطاقة كل يوم
ليكون بيتي مرتبا
كما أحب”(ص35).
هكذا هي الشاعرة تتخبط بأنفاسها وأحاسيسها بين كينونتها الأنثوية في صراع داخلي بين سلطة البيت في مرحلة وسلطة الزوج في مرحلة أخرى وأحاسيس الأم الضعيفة العاجزة تارة والقادرة على الفعل والقدرة على التمرد.
” في بيتي حصّالة
يلقي فيها أطفالي
ابتسامات صغيرة
و يتضاحكون،
زوجي يرمي فيها بانتظام
الكلمات الجارحة
و أحيانا يسدّ فم الحصّالة
بقطعة من اللامباﻻة،
غصّت الحصالة بما فيها
كان يجب أن نكسرها
ليذهب أطفالي إلى مدينة الملاهي
و يستمتع زوجي بوقته كما يريد”(ص37).
ولكن في الآن نفسه هي تعبر عن روح القارئ الذي يجد بعضا من أنفاسه في هذه النصوص كما تعبر عن محيطها ومجتمعها الذي هو جزء من الإطار الزماني والمكاني الذي كتبت فيه هذه النصوص، فهي بمثابة رسائل مضمونة.
فهي تصنع من الذاكرة والفكرة نصا شعريا راقيا فيه من الصور الرائعة والمخيال، ما يجعل نصها يبحر بنا نحو عوالم الانعتاق والتحرر من سلطة البيت وسلطة الرجل وسلطة الذات الشاعرة التي تصارعها. ولكن هذه الذاكرة تقارع الذات الأنثوية تتخفى بستارها، لتكتب نصها فالنص مصدر راحة نفسية ومصدر بحث عن الذات.
كما اعتمدت الكاتبة منذ الصفحات الأولى على الرموز الطبيعية، لما لها من أبعاد وايحاءات رمزية، لأن الطبيعة تستمد حيويتها وقيمتها من تعامل الانسان معها. فهذه الطبيعة امتزجت في روحها وخيالها حيث اتخذتها وسيلة رمزية للتعبير عن أفكارها لما للطبيعة من رموز خصبة قادرة على التعبير والبوح بما يختلج في صدرها.
لكونها من أهم عناصر التصوير الرمزي، حيث تتميز هذه العناصر بالحركية والديمومة وتعطي المبدع حرية التصرف الفني في هذا الرمز. فهذه الرموز لها دورها في التعبير عن الحاجات النفسية، والمواقف الاجتماعية، كما أنها تعكس حالة الشاعرة أثناء كتابة هذه النصوص. وعلى هذا نلاحظ استدعاء الشاعرة فاطمة بن محمود للرموز الطبيعية مثل، (النهر/ الشجر/ البحر/ الغابة/ الجبال/ الماء/ العصافير/ القمر/ الريح…)، هذه الرموز التي تكررت بدورها أكثر من مرة في نصوصها والتي لها جملة من الأبعاد والايحاءات الرمزية. والتي تستوحيها من واقع الانسان وعلاقته بهذه الرموز التي تحمل مدلول استمرار الحياة والأمل، فهي تسخر الابعاد الايحائية لهذه الكلمات من أجل التعبير عن خوالج النفس والتعبير عن أفكارها ورؤاها. هذه الرموز الطبيعية التي تحمل في ثناياها دلالات نفسية وانفعالية مختلفة تفرضها الطبيعة الانسانية.
حيث تم توظيف الطبيعة المتحركة وقد شملت هذه، النباتات والازهار والاشجار كـ:(المطر/ البحر/ النهر/ الماء/ الشجر/ الغابة/ الأعشاب…)ثم وضفت الطبيعة الحية كالحيوان كـ:(الأفعى/ الكلب/ الذئب/ الاسد…)، والطير والحشرات كـ:(النحل/ الحشرات/ العصافير…)، ثم وظفت الظواهر الطبيعية الصامتة سواء ما كان ظاهرا أو مخفيا كـ:(الليل/ النهار/ الشمس /القمر/ النسيم/ الريح…).
” رِيحٌ مُهملة،
تتمشّى بهدوء كل مساء
و أحيانا تُباغتها المطر
تُحلّق مع العصافير
تقود النحل إلى اللذة الساحرة،
رِيحٌ مهملة
بمكر بريء يَعِنُّ لها
أن تغيض العشاق “(ص18).
بالاضافة إلى استعمال الشاعرة الطبيعة الجامدة، كـ:(الجبال/ الصخور/ الرمال/ الصحراء/ البيت…)، وقد وظفتها كأحسن ما يكون التوظيف فالشاعرة تمتلك خاصية حسن الجمع بين الاشياء والتنسيق بينها بدقة بالغة، فالاشياء اليومية البسيطة التي نراها كل يوم في حياتنا لترتيبها كانت تحتاج لمسة شعرية منها لتعيد ترتيبها و تعيد اليها ألقها أو أهميتها فهي التي تغوص في اللغة تبحث في المعاني الخفية فتخرجها من مكمنها و تضعها موضعها فوصفها يجعل من الموصوفات بين يديك وعينيك تراها تحس بها تشاهدها كأنها أمامك وهو نابع من احساس قوي وبصيرة نافذة.
فذكر هذه الاشياء مدعاة للارتياح وراحة النفس عادة لأنها تحقق الهدوء والطمأنينة عند رؤيتها و لكن ذكرها عند الشاعرة مثيرا للحزن والقلق والخوف. فذكر هذه الموجودات الطبيعية تثير الامل بالنفس والطمأنينة والسرور لا الحزن والالم والقلق.
كما أن عناصر الطبيعة ترتفع باللفظة الدالة على العنصر الطبيعي كـ: (المطر/ البحر/ الغابة/ النهر/ الجبال…)، من مدلولها المعروف الذي يعبر عن الجمال، إلى مستوى الرمز لأن الكاتبة من خلال رؤية شعورية تشحن اللفظ بمدلولات شعورية خاصة. فالمطر والنهر والبحر يصبح رمزا للانبعاث الإنساني وأداة الإنسانية، لأنه أداة تفجير الطاقات الباطنة في الذات الإنسانية فالمطر هو الخيط الواصل بين السماء والأرض، الواصل بين الجفاف والخصب، بين الموت والحياة، بين الألم والأمل، بين الظلم والحرية. فإذا بهذه العناصر عند الكاتبة فعل خلق وتغيير وبعث وحياة.
كما أن هذه الرموز كالبحر والنهر والغابة وغيرها من الرموز، فترمز عادة إلى الخوف والرهبة كما أنها رمز الحكايات والمعاناة، ولكن حين نتدبر المعنى الرمزي نلاحظ أنها توحي بالحياة والامل والصراع مع الشعور بالغربة لنبتعد بذلك عن الأبعاد السطحية المعروفة والمألوفة. ولكنها في النهاية لا تهمها الحياة ولكن تهمها القصيدة التي تعني الحياة.
” في العالم الآن
حياة لم تعد تعنيني..
أغلق الباب بهدوء
و أتمدّد داخل القصيدة،
ثم، كمن تذكر مهمة جاء
من أجلها
أضع فوهة المسدس على
رأس القصيدة
و أطلق النار على الشاعرة.”(ص63).
فتبدو الحياة هنا عند الشاعرة فاطمة بن محمود مصدر الحزن والألم والقلق الدائم والخوف من الماضي والخوف من المجهول، فيغدو حزنها حزنا يبحث عن الأمل وعن الذات المفقودة. وهذا ما جعلني أعود إلى قراءة هذه المجموعة أكثر من مرة للوقوف على حالة الشاعرة النفسية التي أفضت إلينا بهذه النتف التي حركت في دواخلي سعادة ولذة حقيقية رغم ذكر الموت الذي يمكن اعتباره الطرف الغامض.
كما أن الرمزية الجامحة واستحضار الموت والحياة بالاضافة إلى الاستحضار الزمني واللا زمني في نصوصها جعلها من الجمالية بمكان، فالشعر عندها نبض الحياة وصفاء الشعر يجري بنا نحو عوالم أخرى نتعشقها ونسبح معها في مدارات واعية، لنعرج فيها ونتلمس أحاسيسها التي تبثها في نصوصها من شجون وخلجات وأشواق وهموم. يقول الفيلسوف الفرنسي “غاستون باشلار”:” الكتابة المبدعة إمكانية كل امرأة لأنه فعل أنوثة ” فالمرأة تمتلك الموهبة والإمكانيات التي تجعل منها قادرة على بث شعرها ومشاعرها في جنس أدبي متميز فالإبداع يعتمد على الإحساس التعبير الجاد الخفي والمعلن نتيجة الصراع الداخلي وهو ما يجعل المرأة الأقدر على التعبير لشدة إحساسها ورقة تعبيرها عن قضاياها وهمومها ومشاعرها الدفينة. التي يعجز الانسان عن فهمها أو الغوص قفيها.
و في الختام يمكن القول أن الشاعرة فاطمة بن محمود من خلال مجموعتها الشعرية ” أرض بلا سماء ” قد بنت أركان هذه المجموعة على جملة من الأسئلة التي تعتبر جوهر الشّعر وعمقه. فالشاعرة هي عدوة اليقين والأخذ بالمسلمات حبيبة السؤال ولا خير في قصيدة لا تزرع فيها الأسئلة ومرارات الرحيل بحثا عن المعنى ونفيا لوجود بلا معنى، لتبني تجربتها الشعرية في ثقة وصبر، لتنبجس معالم النص ولتفتح لنا معالم جديدة ورؤية متفردة، ويولد النص بين كفيها جديدا مبتكرا في نسيجه الفني وبنائه المعنوي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى