رؤي ومقالات

د.فيروزالولي تكتب :المطبلون والمزمرون: سمفونية الدولار على جثة الوطن

من على أطلال وطنٍ مثقوب السيادة ومثقّل بالفواتير، تنبعث أصوات لا تشبه سوى قرع الطبول في مأتم، وزعيق مزامير انقلبت من مدائح إلى نعيٍ جماعي.
هؤلاء ليسوا مجرد إعلاميين أو ناطقين رسميين، بل فرقة أوركسترا مدفوعة الأجر تعزف نشيد “كل شيء تمام” فوق ركام كل ما ليس تمامًا.
في هذا المقال، سنحاول تفكيك شخصية المطبل والمزمر، دون تنميق أو رحمة، عبر أبعاد نفسية، اجتماعية، واقتصادية… مع جرعة وافرة من الضحك المرّ.
البعد النفسي: كرامة للبيع… والسعر مفاوض عليه
أولاً: الصراع الداخلي — ضمير يرتدي حذاءً ضيقاً
عندما يمدح أحدهم فاسدًا يعلم يقينًا أنه فاسد، فهو لا يُقنع الناس، بل يُقنع أمعاءه التي تنتظر وجبة.
يعاني هذا الشخص مما يُعرف بـ”التنافر المعرفي” (Cognitive Dissonance): هو لا يُصدّق ما يقوله، لكنه يكرّره إلى أن يصدق نفسه. وكما قال أحد الحكماء: “اكذب كثيرًا حتى تصدق أن فمك لا يُستخدم إلا للمديح”.
ثانيًا: الدولار هو العقيدة
بعضهم ليس لديهم مشكلة مع الخطأ، بل مع انقطاع الراتب. لا يؤمنون بشيء إلا بالحوالة البنكية.
الولاء هنا ليس للوطن، بل لرقم الحساب. هويتهم الأيديولوجية هي آخر إشعار تحويل.
ثالثًا: النقص المركّب
هؤلاء غالبًا يعانون من نقص إنجاز حقيقي. فيتقمصون دور “الصوت العالي”، كأنما ضجيجهم هو الإنجاز الوحيد المتاح.
يصرخون ليقنعونا أنهم مهمّون، وهم يعرفون أن الميكروفون أضخم من مضمونهم.
رابعًا: التكيّف مع الواقع… أو الموت بكبرياء
“التطبيل” لبعضهم تكتيك بقاء: يقولون لأنفسهم “إما أن أطبل أو أُطحن”. وهذا نوع من الذكاء الزاحف، حيث يتحوّل الإنسان من مواطن إلى مؤدٍّ في سيرك السلطة.
البعد الاجتماعي: يا جماعة، الطبل مش بس صوت… هذا مركز نفوذ!
أولًا: عضوية “نادي المُقرّبين”
المطبلون لا يريدون فقط البقاء، بل القرب. أن يُنظر إليهم كـ”حراس البوابة الإعلامية” للنظام.
إنه ليس مجرد مدح… بل بطاقة VIP إلى الولائم.
ثانيًا: شبكات الزبائنية — تطبل لي، أفتح لك باب وزارة
العلاقات هنا تشبه الصفقات العقارية، لكن العقار هو الكرامة.
من يطبّل، يحصل على وظيفة؛ من يزمّر، يُعيَّن سفيرًا. أما من ينتقد؟ يُتهم بالعمالة فورًا.
ثالثًا: الإعلام كأداة ترويض جماعي
حين يُعاد نفس الخطاب ونفس الوجوه ونفس التحليلات المعلبة، فهذا ليس إعلامًا، بل تمرينًا على الاستسلام.
شاشة واحدة تكفي لترويض شعب كامل، إذا كان الصوت مرتفعًا كفاية والطبل صُنع في الخارج.
البعد الاقتصادي: الوطن يتآكل… بينما يتخم المطبلون
أولاً: التطبيل كوظيفة رسمية
في بعض النظم، يُمنح المطبل نفس الامتيازات التي تُمنح لطبيب أو قاضٍ — وربما أكثر.
فهو لا يعالج مرضًا، لكنه يُخدر وعياً كاملاً.
ثانيًا: الدعم الإعلامي… لا تنمية ولا هم يحزنون
بينما تُهمّش ميزانيات التعليم والصحة، تُضخ الأموال في “ندوات التمجيد” و”مؤتمرات الإنجازات الخرافية”.
كل دقيقة مدح تُخصم من موازنة مشروع كان من الممكن أن يُفيد أحدًا.
ثالثًا: سيولة الضمير مقابل السيولة النقدية
بعضهم يبيع شرفه الإعلامي بنفس سهولة بيع بطاقة شحن.
ليس لأنه فاسد بالفطرة، بل لأنه اعتاد أن لا يُسأل: “من أين لك هذا الصوت؟”
النتيجة الكارثية: وطن يُقصف بالطبل والمزمار
إفساد السياسة: لا نقد، لا تصويب، فقط تصفيق جماعي على الحافة.
تغييب المواطن: من لا يطبل يُستبعد، ومن ينتقد يُخوَّن.
تسويق الرداءة: الرديء يُمدح حتى يبدو عادياً… ثم ممتازًا… ثم مقدّسًا.
إذلال الكفاءة: صاحب الرأي يهاجر، وصاحب المزمار يُعيَّن.
خاتمة هجائية: حين تُصفّق البندقية، وتصمت الكلمة
يا أصحاب البطون المتخمة من موائد التمجيد،
يا من تصرخون “الوطن بخير” والوطن يتقيأكم،
إن صوت الطبل لا يُخيف العدو، بل يُضحكه…
والمزمار لا يعيد المهاجرين، بل يُطرب السُراق.
الوطن لا يُبنى على الصوت العالي، بل على الضمير العالي.
فإن لم يكن في جيبك سوى دفتر شيكات، فلا تتحدث باسم الأرض… تحدث باسم من دفع.
مصادر وملاحظات
مؤشر الشفافية الدولي: اليمن في المرتبة 175 من أصل 180 (2024).
دراسة “اقتصاد الحرب في اليمن” – مركز صنعاء للدراسات (2023).
نظريات الإعلام السياسي: Propaganda Techniques & Loaded Language – جامعة كامبريدج.
أبحاث في التنافر المعرفي – ليون فستنغر (Leon Festinger).
دراسات في علم النفس السياسي والاجتماعي حول التكيّف مع النظم الاستبدادية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى