وليد عبد الحي يكتب :نظرية البطل وتشويه التاريخ

شكلت نظرية المؤرخ البريطاني توماس كارليل في كتابه الشهير On Heroes ,Hero-worship and the Heroic History في عام 1841 تشويها لفهم حركة التاريخ، لكن هذه النظرية تبدو وكأنها مستقاة من “الارث الثقافي والحضاري العربي “، فكثيرا ما عزا العرب انتصاراتهم وتقدمهم ومكانتهم الى ” شخص محدد” يكون هو في الغالب قائد عسكري أو خليفة او ملك او رئيس، او هو باختصار من “يقود” سياسيا او عسكريا.
ففي تاريخنا وطبقا لتراثنا وكتبنا التاريخية فقد أنتصر خالد بن الوليد (636 م) في معركة اليرموك مع ان ما بين 3 الى 4 آلاف من جنوده قتلوا وصنعوا النصر بدمائهم ، وبدونهم ما كان للنصر ان يتم، وفي حطين كان البطل هو صلاح الدين الأيوبي ، دون التفات الى حوالي 4 آلاف قتيل من جنوده، وفي معركة وادي لكة(اسبانيا) نتغنى بطارق بن زياد بينما لا نسأل عن ما يزيد عن الفي قتيل من جنوده، وفي العدوان الثلاثي كان البطل هو عبد الناصر ويتوارى حوالي 2500 عسكري مصري من جنوده وراء اسمه، كما توارى اسم قرابة 8500 جندي وراء “بطل العبور” انور السادات في حرب اكتوبر 1973…الخ، وفي “قادسية صدام” توارى اكثر من ربع مليون قتيل عسكري عراقي وراء ” بطل القادسية”…
وفي حاضرنا الحالي ، توارى آلاف المقاتلين من المقاومة وراء اسم السنوار او حسن نصر الله ..الخ.
ان السجل السابق يجعل من “البطل” هو محرك التاريخ ، وفي هذا “تضليل” وتسطيح لفهم التاريخ ، وهو ما يتضح في الآتي:
أولا: ان اختزال حركة التاريخ في البطل يتجاهل الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي انتجت الحدث الكبير،فالشعب والطبقات والجيوش والمؤسسات كلها نسيج مترابط يساهم في صناعة الحدث ، لكن نظرية البطل تسدل الستار على كل هذه القوى واختصارها في “البطل”، فهل كان من الممكن في كل الانتصارات السابقة ان يقع النصر لولا المقاتل والمؤسسة والخبير والدعم الشعبي والايمان الشعبي …الخ؟ ان المجتمع بمؤسساته هو الذي يصنع الابطال لا العكس كما قال ماركس او هربرت سبنسر .
ثانيا: ان تمجيد الفرد-البطل- يؤدي الى تبرئة البنية الفاشلة وتحميل العبء كله “للبطل” المعقودة الآمال عليه، فالنصر صنعه البطل والهزيمة من صنع ذلك البطل ، اما ما دون ذلك من بنية فتغيب تماما، فيتكرر نصر البطل او هزيمته بفعل هذا الذي ” ما شاء لا ما شاءت الاقدار”.
ثالثا:تحويل التاريخ والواقع لبنية اسطورية، فنسبة كل انجاز الى “البطل” يحوله الى مقدس ، فلو ارتكب الموبقات السبع فانه يبقى في جلاله وهيبته، وتختفي التناقضات والحقائق التاريخية وتتوارى المسؤولية عن فشله.
رابعا: يتحول المجتمع مع نظرية البطل الى قوة “ساكنة” لا تتحرك الا بفتوى من البطل، فالمجتمع متفرج على أداء البطل وسحره ومعجزاته، ورغم ان الكثير من ” الابطال” كان قابعا في خيمته او قصره او قلعته ، بينما شلالات دم جنوده تنزف ، واطباء جيشه يعالجون ، ومصانعه ومخابزه تصنع الذخيرة والطعام ، لكن هؤلاء جميعا تتوارى ادوارهم خلف “شمس البطل”، وهنا لا بد ان نكرر السؤال الجوهري الذي طرحه عالم الاجتماع الفرنسي ريمون آرون وهو ” لا ينجح الابطال إلا في ظروف مهيأة لنصرهم”..فمن هيأ تلك الظروف ؟ بالتأكيد ليس البطل.
خامسا: ان نظرية البطل هي تكريس خبيث ومَرضي للاستبداد السياسي، فالمجتمع هو الذي يصنع المعجزات الانتاجية والعسكرية والابداعية والفنية ، وهذا البطل قام فقط بقطف الثمار، لكن نظرية البطل تسرق جهد المجتمع وقواه المختلفة وتلصقها “بالبطل” ، وحينها يدرك “البطل” ان الشعور بالدونية المسيطر على المجتمع يمنحه فرصة استغلال مكانته في العقل الجمعي ،وبهذا تتهيأ بذرة الاستبداد للنمو المتوالي.
ان المطلوب من الفكر العربي الخروج من دائرة البطل ، فالمدرسة البنيوية (Structuralism) ترى ان مسار الاحداث –نصرا او هزيمة- تحدده البنيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والماركسية ترى الابطال محصلة لظروفهم المادية، والمقاربات الواقعية والثقافية لا ترى الاحداث الا من زاوية التطور الفكري والتقني و..الخ.
ان الذي قفز بالصين من المرتبة 36 عالميا لتزاحم على المركز الاول عالميا هم عمالها وفلاحوها وخبراؤها وعلماؤها وجنودها ومعلموها وجامعاتها وحزبها وتراثها الثقافي، وسرعة القافلة تقاس بسرعة آخر إبلها لا أولها،فلكل دوره.
كل ما سبق لا ينفي ان الافراد قد يكونوا محفزين للحركة التاريخية، لكن ذلك لا يعني انهم هم من صنع الحركة والنصر والتقدم..بل ان دم الشعب وجوعه وعطشه ومؤسساته وعلماءه ونخبه وبنياته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي صانعة كل شيء، ولن نتخلص من “زهو البطل وتمجيده” الا إذا اعدنا للشعب مكانه ، فلا تسرقوا بطولة الشعب وتهدوها لأحد أيا كان…