بين الشعر و القراءة : حين تتحول القراءة إلى نص موازٍ …. بقلم : زكريا شيخ أحمد

النص النقدي الذي قامت به مشكورة صفحة قراءات أدبية لنصي الذي يحمل عنوان ” هو الذي يشبهني” رأيته مكتوباً بلغةٍ رصينةٍ، متينةَ الإيقاع، متوازنةً بين التأمل و التحليل جاءت كفعل مقاومة ثقافية بحد ذاته.
إن القراءة لم تكن تفسيراً أو شرحاً لنصي و إنما كانت بيان شعري في الدفاع عن الحق في الارتباك و عن الشعر بوصفه تجربة وجودية لا معرفية.
قراءة ذهب إلى ما وراء النص لتفكك آلية تلقي المختلف و تكشف البنية النفسية و الثقافية التي تجعل القارئ المعاصر يخاف الغموض و يختزل التجربة الوجودية في تهمة الاضطراب.
القراءة كفعل مواجهة
أعتقد أن هذه القراءة لم تتخذ من النص الشعري مادة للشرح أو التفكيك فحسب و إنما اتخذت منه مرآة للثقافة
فما تم كتابته عن النص أكثر من كونه شرحاً لجمالياته إنه محاولة لفهم المجتمع الذي يقرأه.
و حين تقول القراءة إن “اتهام الذات بالشذوذ هو انعكاس لارتباك القارئ أمام المختلف فهي لا تدافع عن شاعر أو نص شعري بقدر ما تدين نمطاً ثقافياً في التلقي ذلك النمط الذي يرى في الغموض تهديداً
و في التساؤل ضعفاً و في الهشاشة نوعاً من المرض.
بلاغة النقد و حرارة اللغة
ما ميز هذا النص النقدي حسب ما قرأته هو لغته التي تسير على حافة الشعر من دون أن تفقد صرامتها الفكرية.
إنها لغة تحتفظ بحرارة النص الذي تناقشه فلا تبرده بمصطلحات جامدة و إنما تستدعي قاموساً وجدانياً يليق بموضوعها.
المقال قطعة نثرية نقدية تحمل في طياتها شحنة شعورية تشبه الشعر الذي تحلله.فتحول القراءة بذلك إلى نص موازٍ قائم بذاته أدبياً و جمالياً لا تابع للنص الأصلي.
من النقد التفسيري إلى النقد الثقافي
أكثر ما أبهرني في هذه القراءة أنها لم تقف عند حدود التفسير البلاغي أو الجمالي و إنما تجاوزته نحو تحليل البنية الثقافية للتلقي.
فهي تقترح أن رفض القارئ لمثل هذا النص ليس مسألة ذوقية و إنما نفسية و ثقافية في جوهرها.
من هنا تدخل القراءة آليات الدفاع الثقافي إذ يتحوّل الخوف من الغموض إلى نوع من المقاومة اللاواعية لكل ما يهز استقرار الصورة الذاتية.
هذا التحليل يرفع المقال من مرتبة النقد الأدبي التقليدي إلى مستوى النقد الثقافي الذي يقرأ المجتمع من خلال النصوص لا النصوص بمعزل عن المجتمع.
الإنسان في مواجهة النظام المعرفي
جوهر المقال الذي قدمته القراءة يكمن في الدفاع عن الإنسان في وجه النظام المعرفي الصلب الذي يخضع التجربة الشعورية لمقاييس المنطقي و السوي.
حين تقول القراءة:
“النص لا يهرب، بل يواجه هشاشة الاسم، وزيف الصورة، وغربة الصوت.”
فهي لا تصف نصي فقط، بل تصف مصير الإنسان المعاصر الذي يبحث عن وجهه في مرايا متعددة و لا يجد سوى انعكاساته المتناقضة.
هنا تلتقي القراءة بالشعر في نقطة فلسفية مشتركة هي أن الحقيقة ليست ما نعرفه و إنما ما نفتقده .
قراءة تقرأ نفسها
ما لفتني أن القراءة في عمقها تمارس على نفسها ما تمارسه على النص.
فهي أيضا تصغي لا تحاكم و تنصت للارتجافة لا للنتيجة.
إنها قراءة مضادة للنقد السلطوي الذي يضع نفسه فوق النصوص.
بل على العكس، تضع نفسها في موقع الشريك فتنصت كما ينصت الشاعر و تحاور كما يحاور النص ذاته.
فتتحول القراءة إلى كتابة ثانية تعيد للشعر مكانته بوصفه تجربة مشتركة بين الكاتب و القارئ، لا بين مؤلف و متلقي.
القراءة حول نصي هو الذي يشبهني هي بيان في الدفاع عن الشعر كطريقة في الوجود.
كأن كاتبها يقول بأن الشعر ليس مرضاً لغويا و لا انحرافاً عن العقل و إنما طريقة لالتقاط الارتجافة الأولى في قلب العالم .
و حين تتحول القراءة إلى نصّ موازٍ بهذا العمق فهي كما ذكرت تؤكد أن النقد الحقيقي ليس شرحا للنص و إنما استجابة له صدى يحافظ على رجفة الأصل و يمنحها حياة جديدة في اللغة.
إلى المهتمين أضع بين أيديكم القراءة
مع وافر الامتنان و المحبة و التقدير و الاحترام لكاتبها و لصفحة الرصينة و المبهرة قراءات أدبية
حين تُتّهم الذات بالشذوذ: عن الشعر، الهوية، والخوف من ارتباك المعنى
———————————————-
قراءة في نص وجداني وتأمل في آليات استقبال المختلف
في إحدى التعليقات التي وُجهت لنص شعري وجداني بالغ العمق، كتبه الشاعر السوري زكريا شيخ أحمد تحت عنوان هو الذي يشبهني و نشره على صفحته على الفيس بوك بتاريخ 11 مايو أيار 2025
وصف النص بأنه “هروب من المرجعيات
المعرفية”
و ربط هذا الهروب بما سُمّي “مرضاً نفسياً”.
قد يبدو هذا التعليق صادماً، لكنه في الواقع نافذة لفهم أعمق: ليس فقط لما يُقال في النص، بل أيضاً لما يُقال عنه. فمثل هذه الأحكام القاطعة لا تنفصل عن ثقافة قرائية تميل إلى تصنيف التجربة الوجودية كخلل، والغموض كتهديد.
النص يقول في بدايته:
(ما من مرآةً أعادت إليّ وجهي
كل الصور التي عشتُ فيها كانت لمخلوق يشبهني، لكنه ليس أنا.)
هنا يبدأ الشاعر زكريا شيخ أحمد من نقطة توتر وجودي حاد: انعدام الانعكاس، اختفاء الهوية في مرايا العالم. لا يدّعي النص رفضاً للمعرفة، بل يكشف عن محدودية الأدوات المعرفية والتمثيلية في استيعاب الذات. إنه لا يهرب، بل يواجه. يواجه هشاشة الاسم، زيف الصورة، وغربة الصوت.
وعندما يكتب:
(كثيرا ما أغير وجهي في منتصف الجملة
كأن المعنى يخونني أو كأن الحبر لا يثق بي.)
فهو لا يعبّر عن فوضى بلا وعي، بل عن صراع داخلي عميق مع اللغة ذاتها، مع قدرة الكلمة على احتواء الذات المتغيرة. تجربة تتجاوز التصنيف، وتتطلب قراءة تنصت لا تحاكم.
( أنا فقط أضع أذني على قلب العالم وأنتظر ارتجافة تشبهني )
ليست جملة شاعرية وحسب، بل بيان ضد التعالي المعرفي. إنها كتابة تتخلى عن سلطة “الشاعر العارف”، لتكتفي بدور المُصغي للارتجافة. وهذا بذاته موقف وجودي وفني جريء.
فلماذا إذًا يأتي الرد من بعض القرّاء قاسياً أو اتهامياً؟ هنا يمكن فهم السياق النفسي والثقافي لهذا النوع من التلقي، من خلال عدة محاور:
1. التمسك بالمقولات الصلبة والمرجعيات الثابتة
البعض يرى في النصوص التي تُظهر تشظي الذات، قلق الهوية، وغموض المعنى خروجاً عن النظام المعرفي الذي يرتاح له، فيتفاعل معها كنوع من التهديد الفكري، ويستجيب لها بردة فعل دفاعية، إما بالتقليل من قيمتها، أو بتوصيفها كـ”خلل” أو “مرض”.
2. الخلط بين “المعرفي” و”النفسي”
حين يُساء فهم نص introspective على أنه رفض للعقل أو تفكيك للمنطق، سرعان ما يُسقط عليه توصيفات مرضية، دون أن يُمنح فرصة لأن يُقرأ كتجربة إنسانية شعورية مشروعة، تسائل لا تهرب.
3. عدم التفاعل الحسي مع النص الشعري
القراءة العقلانية البحتة، وإن كانت مفيدة أحياناً، قد تُفقد النص بعده الحسي. فالشعر ليس “بياناً معرفياً”، بل “كثافة شعور تُقرأ بالأذن والقلب قبل العقل”. من يحاكمه بمعايير تقريرية سيجده دائماً غامضاً، وربما غير مشروع.
4. الخوف من الغموض والانفلات من القوالب
الكتابة التي لا تمنح القارئ إجابات جاهزة تُربكه. وفي مواجهة هذا الارتباك، يلجأ البعض إلى الرفض أو التجاهل لاكتساب السيطرة من جديد. وهذه آلية مفهومة نفسياً، لكنها لا تبرر اختزال التجربة الشعرية.
5. الإسقاط الشخصي
ربما اقترب النص – دون قصد – من أماكن داخلية قلقة في القارئ نفسه: الغربة عن الذات، أو التشكيك في الثبات المعرفي، أو الحيرة الوجودية. عندها، لا يكون الرد نقدياً بقدر ما يكون إسقاطاً نفسياً، والدفاع بالهجوم يصبح غلافاً لخوف دفين.
هذا النص لا يستحق أن يُختزل باتهام نفسي، بل أن يُقرأ كصرخة ناعمة صادقة، تحاول أن تكتب الذات بالصمت لا بالصوت، بالحيرة لا باليقين، وبالارتباك لا بالجاهزية. إنه نص لا يشبه الشعر كما “يكتبونه”، بل يشبهنا… نحن الذين ضاعت منا وجوهنا، وأسماؤنا، وما زلنا نكتب، ونُصغي، وننتظر ارتجافةً تشبهنا.
النص موضوع القراءة
هو الذي يشبهني
ما من مرآةً أعادت إليّ وجهي
كل الصور التي عشتُ فيها كانت لمخلوق يشبهني ،لكنه ليس أنا .
يصغي مثلي، يبتسم بحذرٍ مثلي ،
لكنه حين يتحدث
ينبعث من فمه صوت لا أعرفه .
كل من صافحني ظن أنه عرفني
و كأن اسمي يكفي ليكون وجهي
و كأن وجهي يكفي ليكون أنا .
كنت أبحث عن جملة أولى لقصيدة
فسقطتُ في منتصف الفراغ .
لم أكتب شيئا ، ربما كتبتُ صمتي .
و ربما كتبتني القصيدة دون أن أدري .
كثيرا ما أغير وجهي في منتصف الجملة
كأن المعنى يخونني أو كأن الحبر لا يثق بي .
قالوا: ما هذا؟ هذا ليس شعرا .
لم أجادل…
لأنني لا أكتب الشعر كما يفعلون
أنا فقط أضع أذني على قلب العالم
و أنتظر ارتجافة تشبهني .
كنت أكتب رسالة ، لكنها خرجت من يدي
كطيور الليل … لا تصل و لا تعود.
و ما تبقى منها الآن
هو هذا الذي تقرأه…
و تمضي .