بين الطوفان وقوس الله / الشاعر السورية القديرة سرية العثمان

#بَيْنَ_الطُّوفَانِ_وَقَوْسِ_اللَّهِ
أَزِيزٌ تَحْتَ رَأْسِي يُوقِظُنِي..وَأَنَا فِي سُبَاتٍ مُنْذُ عَامِ الفِيلِ،
لَا أَعْرِفُ مَصْدَرَ الصَّوْتِ، لَكِنَّهُ يَشْبِهُ ارْتِجَافَ فِكْرَةٍ خَائِفَةٍ، عَائِقَةٍ بَيْنَ جُمَجْمَتِي وَوِسَادَتِي،
كَأَنَّ أَحَداً حَفَرَ نَفَقاً صَغِيراً فِي مِخِّي، وَرَاحَ يَنْفُثُ فِيهِ الْهَوَاءَ بِبُطْءٍ، كَأَنَّهُ يُرِيدُ إِحْيَائِي أَوْ قَتْلِي — لَا فَرْقَ.
أَفْتَحُ عَيْنَيَّ عَلَى سَقْفٍ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ أَلْفَ مَرَّةٍ، وَكُلَّ مَرَّةٍ كَانَ يَحْتَفِظُ بِنسْخَةٍ مِنْ رُوحِي الَّتِي اِنْكَمَشَتْ كَقَمِيصٍ نُسِيَ فِي مَاءٍ مَالِحٍ.
أَتَذَكَّرُ عِبَارَةَ كَافْكََا:
(كُلَّمَا اقْتَرَبْتُ مِنَ الْحَقِيقَةِ، شَعَرْتُ أَنِّي أَبْتَعِدُ عَنْهَا أَكْثَرَ)،
وَأَقُولُ لِنَفْسِي: هَذَا السَّقْفُ أَقْرَبُ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ الْحَقَائِقِ.
الزَّمَنُ لَا يَمُرُّ، بَلْ يَتَخَثَّرُ عَلَى أَطْرَافِ السَّرِيرِ، يَتَقَلَّبُ مَعِي كُلَّمَا غَفَوْتُ عَنْ حُرُوفِي، وَهَا أَنَا الْآنَ أَبْحَثُ عَنْ أَوَّلِ جُمَلَةٍ تَلِيقُ بِهَذَا السُّقُوطِ الصَّامِتِ.
وَيَسْأَلُنِي الصَّمْتُ.. أَيْنَ كُنتِ؟
أَنْظُرُ إِلَى ذَاتِي فَتُجِيبُنِي:
كُنَّا فِي سَفِينَةِ الطُّوفَانِ،
وَنُوحٌ يَأْخُذُنَا لِنَرْسُو عَلَى الْجُودِيِّ.
لَكِنَّ فِي قَلْبِي كَانَتْ تَرِنُّ أُسْطُورَةٌ أُخْرَى،
(مِلْحَمَةُ جِلْجَامِشَ)،
حِينَ بَحَثَ عَنِ الْخُلُودِ وَلَمْ يَجِدْهُ إِلَّا فِي الطُّوفَانِ وَالْكِتَابَةِ،
وَهَا أَنَا أَبْحَثُ مِثْلَهُ عَنْ طُوفَانٍ يُعِيدُنِي إِلَى نَفْسِي.
لَكِنَّ أَحَدًا لَمْ يَقُلْ إِنَّ الْيَابِسَةَ سَتَكُونُ أَقَلَّ رُعْباً مِنَ الْغَرَقِ.
كُلُّ النَّجَاةِ الَّتِي وَعَدُونَا بِهَا كَانَتْ مَحْضَ خُرَافَةٍ مُغَلَّفَةٍ بِصَبْرِ النِّسَاءِ،
وَأَرَانِي وَكَأَنَّنِي إِحْدَى بَطَلَاتِ مَارْكِيز فِي
(مِئَةِ عَامٍ مِنَ الْعَزْلَةِ)،
أُولَدُ فِي الْعَاصِفَةِ وَأَمُوتُ فِي الْقِيَامَةِ ذَاتِهَا.
مُنْذُ أَنْ نَزَلْتُ، وَالْأَرْضُ تَمِيدُ تَحْتَ قَلْبِي،
النَّاسُ يَمْشُونَ بِخِفَّةٍ لَا تَشْبَهُ الطُّوفَانَ الَّذِي تَرَكُوهُ خَلْفَهُمْ،
وَأَنَا أَجُرُّ بَقَايَا الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَظَافِرِي،
أَسِيرُ بِثَقَلٍ مِمَّنْ عَبَرَ الْقِيَامَةَ مَرَّتَيْنِ
وَلَا يَمْلِكُ دَلِيلَ نَجَاةٍ سِوَى ذَاكِرَةٍ تَتَعَفَّنُ بِبُطْءٍ.
هَا أَنَا أَمْشِي وَأَمْشِي
تَطِلُّ عَلَيَّ جُوقَةٌ مِنَ الْعَصَافِيرِ مِنَ الْغَابَةِ،
يَا اللَّهُ،
إِنَّهَا تُصَفِّقُ..لِحَبْلِ اللَّهِ الْمَمْدُودِ مِنَ السَّمَاءِ.
أَتَذَكَّرُ (آنا بَافْلُوفَا)
وَهِيَ تَقِفُ عَلَى رُؤُوسِ أَصَابِعِهَا تُؤَدِّي،
(الْبَجْعَةَ الْمُحْتَضِرَةَ)،
وَتَقُولُ لِي بِهُدُوءٍ:
الرَّقْصُ عَلَى الْحَافَّةِ أَحْيَاناً أَصْدَقُ مِنَ الطَّيَرَانِ.
اِرْكُضْ، اِرْكُضْ
بِدُونِ أَقْدَامٍ،
وَيَسْبِقُنِي وَجْعِي النَّبِيلُ،
وَيُلَفُّنِي فِي الْفَضَاءِ (قَوْسُ اللَّهِ)، كَمَا فِي لُوحاتِ (كَانْدِينْسْكِي)،
حِينَ يَرْسُمُ الصَّوْتَ وَاللَّوْنَ وَالرُّوحَ فِي قَوْسٍ وَاحِدٍ.
وَأَنَا هُنَاكَ،
عَارِقَةٌ بَيْنَ قَوْسَيْنِ مِنْ مَاءٍ وَغِيَابٍ،
أَنْتَظِرُ أَنْ يُبِلَّ قَلْبِي أَوَّلَ ضَوْءٍ.
لَمْ يَعُدْ عِندِي سُؤَالٌ لِأَطْرَحَهُ،
وَلَا جَوَابٌ أَخْشَى أَنْ يُقَالَ.
فأَتَذَكَّرُ قَوْلَ (النَّفَّرِي):
(كُلَّمَا اتَّسَعَتِ الرُّؤْيَا ضَاقَتِ الْعِبَارَةُ)،
وَأَكْتَشِفُ أَنَّنِي الْآنَ مُجَرَّدُ ظِلٍّ يَخْتَبِرُ خِفَّةَ الْمَوْتِ،
وَشَبَحُ نَجَاةٍ لَمْ يُصَفِّقْ لَهُ أَحَدٌ.
لَكِنَّنِي عَلَى يَقِينٍ…
أَنْ الْأَرْضَ الَّتِي سَقَطْتُ مِنْها
تَذْكُرُ قَدَمَيَّ،
وَأَنَّ السَفْفَ الَّذي رَمَقَني طَويلاً
سَيَشهْدُ أَنَّني حَاوَلْتُ.
سرية العثمان ٢٠٢٥/١١/٩