رؤي ومقالات

السفير أحمد مجاهد يكتب :عامان ويومان من الطوفان

بعد عامين ويومين من حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، وصلت الأطراف إلى مرحلة الإرهاق الشامل، فكان لابد من التوقف.
لم يكن بالإمكان وقف إطلاق النار وإعلان الهدنة إلا بعد الوصول إلى “لحظة النضج”، أى إدراك كل من الأطراف أنه قد حقق مكاسب كبيرة لكنه تكبد فى الوقت نفسه خسائر جسيمة، وأن هذه الخسائر تتزايد يومًا بعد يوم وتشكل ضغطا عليه لا يُطاق.
فقد حققت المقاومة الفلسطينية (حماس والفصائل الأخرى) أهدافها فى إسقاط مبدأ الردع الإسرائيلى منذ يوم ٧ أكتوبر، ومن خلال الصمود الأسطوري لعامين فى وجه آلة حرب وتكنولوجيا وإعلام جبارة يأتيها المدد الذى لا ينقطع من كل مكان فى العالم، كشفت الوجه الوحشى القبيح للاحتلال الإسرائيلى أمام العالم، لا سيما الأجيال الجديدة فى الغرب، وتحولت إسرائيل إلى دولة سيئة السمعة دوليا، كما تم إجبارها على الجلوس فى نهاية الأمر إلى طاولة المفاوضات.
لكن حماس حققت كل هذه المكاسب مقابل خسائر إنسانية وعسكرية وفى البنية التحتية فادحة إلى حد لا يمكن تجاهله أو إنكاره.
أما إسرائيل، فقد أفقدتها الضربة عقلها (وما زالت)، لكنها امتصتها وقامت بشن حرب إبادة ودمار انتقامية تأديبية طويلة، بدعوى القضاء على حماس باعتبارها منظمة إرهابية وذراعًا لإيران. كما استغلت الفرصة السانحة لتدمير غزة وإزاحة الشعب الفلسطينى من القطاع لتنفيذ مخططاتها للاستيطان الإحلالى المركونة فى الأدراج، وبنت على زخم الدعم الرسمى الأمريكى والغربى في محاولة القضاء على تهديداتها الإقليمية (إيران ولبنان واليمن وسوريا).
وقد حققت في ذلك نجاحات ميدانية -كبيرة، لكنها مرحلية وليست كاملة بما يسمح لها بفرض الهيمنة أو سلام الردع الإسرائيلي الذى تنشده.
لكن إسرائيل تعرضت فى الوقت ذاته لمقاومة فلسطينية مبهرة هزت الروح المعنوية، ولضربات إيرانية فى قلب تل أبيب اضطرتها لطلب التدخل الأمريكى لإيقاف حرب الأيام الاثنى عشر.
والأهم هو الخسائر الفادحة التى تعرضت لها روايتها -القائمة على رباعية المظلومية والديمقراطية والتفوق والحصار- والتى دأبت على ترويجها لجلب الدعم لها منذ نشأتها، إذ تحولت بفعل جرائمها إلى دولة منبوذة مثخنة بجراح النبذ العالمى. كما اتضح بشكل أكيد أنها دولة لا يمكن لها العيش بدون التوسع التوحشى، وبدون إمدادات الحياة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية الأمريكية والغربية.
لقد بدت إسرائيل أمام العالم كقوة فقدت قدرتها على التمييز وعلى السيطرة على غرائزها الأولية، دولة تواجه أزمة أخلاق ومعنى أكثر منها خطرًا أمنيًا.
فضلًا عن ذلك، فضحت التطورات الشبكات السرية وعلاقات اللوبي الإسرائيلي والصهيوني التي تخترق وتهدد بالمال والفضائح وتسيطر على مؤسسات التشريع والقرار والإعلام في الولايات المتحدة والغرب.
أما الولايات المتحدة، فرغم الدعم المطلق من إدارتَى بايدن وترامب للحرب الإسرائيلية على غزة، والتأييد الترامبى ذى الصبغة الدينية لإسرائيل، وتدخله أكثر من مرة لإنقاذ إسرائيل ونتنياهو بشكل فج، إلا أن هناك ثلاثة عوامل دفعت ترامب لاسترداد زمام المبادرة وتبوأ مقعد القيادة.
أولًا، خشيته من استمرار تراجع شعبيته الداخلية لدى قاعدته الانتخابية الكبرى في اليمين الأمريكي جراء توريطه أمريكا في الحروب الإسرائيلية بالشرق الأوسط، وهو ما ناقض تعهداته الانتخابية بالتركيز على الداخل الأمريكي، فضلًا عن الانتقادات المتزايدة لتقديمه مصلحة إسرائيل على مصالح الولايات المتحدة.
العامل الثاني هو الضربة الإسرائيلية الفاشلة ضد قيادات حماس التفاوضية في قطر، التى زعزعت ثقة الحلفاء الخليجيين في مظلة الحماية الأمريكية، وأظهرت ترامب بمظهر الألعوبة فى يد نتنياهو.
أما الدافع الثالث، فهو طول أمد الحرب الإسرائيلية بلا أفق، بما يفاقم عدم الاستقرار الإقليمى إلى حدود غير مقبولة أمريكيًا ويؤثر سلبا على التوجه الاستراتيجى الأمريكى لمواجهة الصين وروسيا.
شجعت هذه التطورات ترامب على استرداد زمام القيادة وإجبار نتنياهو على الانصياع لرغباته، وفرض سلام الهيمنة الأمريكية بدلًا من سلام القوة الإسرائيلية.
فى خضم هذا المشهد الأخير، كانت مصر هى البلد الذى أظهرت أنها أدارت الأزمة بعقل الدولة البارد لا بعاطفة اللحظة. فقد وقفت القاهرة ضد مساعى التوريط الإسرائيلية، وضغطت قدر الإمكان وفى حدود المستطاع فى ظل موازين القوة الدولية لإيصال المساعدات إلى غزة، ورفضت بشكل قاطع أى مشروع للتهجير أو التغيير الديموغرافى في سيناء، إدراكا منها لأن هذه المشاريع تعنى ببساطة تصفية القضية الفلسطينية، ورسمت خطوطًا حمراء واضحة: لا تهجير، لا مساس بالسيادة، لا صفقات على حساب الأمن القومى المصرى. ثم تحركت بفاعلية فى الوقت الحاسم، وقادت إلى جانب قطر مفاوضات معقدة ضمت واشنطن وتل أبيب وحماس، حتى تم تثبيت الهدنة فى إطار جبهة وساطة فعالة شملت أيضا تركيا.
ومن المنصف أن نقول إن مصر قد أدارت هذا الملف فى الآونة الأخيرة بثبات وهدوء ونجاح، دون ضجيج ولا استعراض، مؤكدة أن دورها ما زال حجر الزاوية فى توازن وأمن المنطقة.
وبالرغم من الابتهاج الطبيعى المصاحب لإيقاف الحرب والاحتفاء بالصمود، والتفاؤل الحذر بإيجاد تسوية تضمد جراح الشعب الفلسطينى، إلا إن سيناريوهات اليوم التالى المطروحة من القوى الدولية تشى بأن هذه القوى -مثلها مثل أطراف النزاع والقوى الإقليمية- لم تركز فى هذه المرحلة إلا على جهود وقف إطلاق النار وإعادة الرهائن الإسرائيليين، وأن هذه القوى-مثلها مثل الجميع- طرحت أفكارا للمراحل اللاحقة تبدو فى معظمها غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع، وتركت أبوابا خلفية تمنح الفرصة لإسرائيل لإعادة العجلة إلى الوراء والرجوع إلى المربع صفر.
بالتالى، ما زالت مرحلة ما بعد الحرب مفتوحة على الاحتمالات كافة، ويجب استمرار التحسب لتلك الاحتمالات.
ففيما يتعلق بنقاط ترامب العشرين -المليئة بالطموحات والثغرات والشيطان الخفى فى التفاصيل-، لم يوافق الطرفان الإسرائيلى والحمساوى معا إلا على بعض بنود مرحلتها الأولى (وقف إطلاق النار، والانسحاب الإسرائيلى من مناطق فى غزة، وتبادل الأسرى، ودخول المساعدات الإنسانية)، تحت إشراف وبضمان فريق عمل من دول الوساطة.
أما خطة بلير -التى تبدو خطة تنفيذية لأفكار التطوير العقارى المتضمنة فى نقاط ترامب بشان تسوية أوضاع غزة- فتحتوى على العديد من المساحات المجهولة لا سيما فيما يتعلق بحقوق ملكية الأراضى والعقارات، فضلا عن الأبواب الخلفية التى قد تفتح طريقا إلى التهجير “الطوعى” بمقابل مالى.
كما تسعى أطراف غربية أخرى إلى إيجاد موطئ قدم لنفسها فى غزة ما بعد الحرب.
فمن المزمع أن تنظم بريطانيا خلال هذا الأسبوع مؤتمرا فى لندن لحشد الموارد لإعادة إعمار غزة عبر التمويل البريطانى والقطاع الخاص. أما فرنسا، فعقدت مؤتمرا خلال اليومين الماضيين فى باريس لطرح “أفكار جديدة” تتيح لهم موضعا فى خريطة ما بعد الحرب، وسط امتعاض أمريكى واضح من تلك التحركات، التى تراها واشنطن خروجا عن مسار الملف الذى حددته.
غياب تصور واضح للمرحلة الثانية والمراحل اللاحقة يجعل المكاسب الراهنة مهددة بالتبديد، ما لم تُترجم إلى ترتيبات سياسية وضمانات دولية ملزمة.
فى هذا السياق، تبدو المبادرة المصرية (العربية–الإسلامية) الطرح الأكثر واقعية واتزانا، والأكثر مراعاة لمصالح الشعب الفلسطينى. فهى تقوم على إنشاء صندوق عربى-إسلامى لإعادة إعمار غزة، بإدارة مشتركة بين مؤسسات التمويل الدولية والعربية، لضمان استقلال القرار الفلسطينى ومنع أى وصاية أو ابتزاز خارجى. وتربط هذه المبادرة بوضوح بين وقف إطلاق النار الدائم، وبين الإعمار بشراكة عربية والانطلاق نحو مسار سياسى جديد يُفضى إلى إقامة دولة فلسطينية على حدود ١٩٦٧.
ميزة هذه المبادرة أنها تنطلق من الشرعية الدولية وتوازن بين العدالة والاستقرار، وتحفظ الوجود الفلسطينى ولا تسعى لتقاسم النفوذ عليه. إنها الخطة الوحيدة التى تجمع بين الرؤية السياسية والجدوى التنفيذية، وتملك قبولا شعبيا ومؤسسيا لا تملكه أى من المبادرات الغربية.
ومن الضرورى تحويل جبهة الوساطة القائمة إلى جبهة ضغطٍ عربية-إسلامية موسعة، بحيث لا تقتصر على التنسيق الميدانى أو التفاوضى، بل تتطور إلى آلية دبلوماسية إقليمية متماسكة، قادرة على بلورة موقف موحد، وفرض جدول أولوياتٍ واضح على
المجتمع الدولى.
وتمنح تعقيدات الوضع الراهن القوى العربية والإسلامية فرصة نادرة للدفع بصياغة جديدة لمعادلات الأمن الإقليمى على أسس أكثر عدلا واستقرارا، ولطرح أفكار وضمانات جديدة للأمن الإقليمى فى الشرق الأوسط تستند إلى الردع المتوازن لا الهيمنة، وإلى التفاهم لا الوصاية.
ولعل فى قمة السلام العالمية التى تستضيفها مصر فى شرم الشيخ بعد غد ١٣ أكتوبر -بحضور الرئيس الأمريكى وقيادات أكثر من ٢٠ دولة ومنظمة دولية وعربية- مناسبة ملائمة لطرح هذه الأفكار ووضع القوى الدولية أمام مسؤولياتها، وتكثيف الضغوط على الجانب الإسرائيلى.
كما سيقدم تعجيل مصر بعقد المؤتمر الدولى لإعمار غزة، والتنسيق مع المسار السعودى-الفرنسى بشأن حل الدولتين- زخما إضافيا للدفع بأفكار المبادرة العربية-الإسلامية.
وفى الختام، تقديرى أن الحرب فى شكلها الإبادى قد توقفت -ولو مرحليا- لكن مرحلة إقرار السلام وانتزاع مكتسبات الصمود فى مواجهة الإبادة ما زال دونها عوائق كثيرة. بالتالى، فالفرح الكبير طبيعى، والحذر الشديد مطلوب، والمواجهة الإقليمية النشطة للمخططات الإسرائيلية أمر ضرورى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى