رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب: مديح الخسارة

“”
ـــــ لقد بحث البشر دوماً عن التضامن والتآلف مع الطرواديين المهزومين ـــ حرب طروادة ــ وليس مع الإسبارطيين المنتصرين. ربما لأن هناك في الهزيمة كرامة يصعب عليها أن تتوافق مع النصر * لويس بورخيس.
عندما كان بورخيس صانع المتاهات، المضاد للحذلقة والتقعر، حيث العبارات بسيطة وملغزة وعميقة تنساب كما ينساب نمر مدهون بالزيت تحت ضوء القمر ينزل سلالم العمارة القديمة في بوينس آيريس وهو أعمى،
حذره كاتب سيرته بارنستون ” مساء عادي في بوينس آيرس” وهو شاعر أمريكي من السقوط من السلالم المعتمة، فرد عليه بورخيس:
” لا تقلق فلقد تجاوزت المرحلة التي أنكسر فيها”.
عندما يتجاوز الانسان مرحلة الانكسار، الانكسار الداخلي وهو ما قصده بورخيس بلغته الرمزية العميقة، يتلاشى شعور الخطر، والخوف من الخسارة، تتحول الخسارة الى رهان جديد وفرصة ومحاولة للبدء من جديد. غالباً يتعلم البشر من الفشل والخسارة أكثر مما يتعلمون من الانتصارات الصغيرة التي تقود الى طريق مغلق. لكن الانسان يرغب أن يكون منتصراً ولو على حشرة لان هذا النصر الزائف يمنح متعة السلطة على شيء.
ليس سهلاً تجاوز مرحلة الانكسار ومن الصعب جداً بلوغها،
وهي ليست خياراً أو قراراً شخصياً، ولكنها تراكم تجارب ووعي هذه التجارب،
ومصالحة مع الذات وقبول الحياة كهدية، وتحمل الفشل او الخسارة كقدر أو مصير.
ماذا يفعل انسان مثلاً وجد نفسه في نفق فحم؟ كيف يمكن أن يخرج بلا بقع وناصع البياض؟ في حالات تكون الخسارة في تشابك ظروف معقدة خارج طاقة الفرد وقدراته.
أن يخسر الانسان ويُهزم، أمر يحدث كل يوم، لكن ليس كل فشل هو هزيمة،
وليست كل هزيمة فشلاً وعلينا تجاوز العناوين الخاطئة.
هناك فشل بطولي وهزيمة مشرفة عندما يدخل الانسان في صراع ضد قوى غادرة وشريرة ويستهلك كل طاقته في الصراع ضدها،
فيكون الفشل نصراً كما تكون الهزيمة فخراً، لأن المعركة مستمرة ولم ترفع الراية البيضاء،
ومن لحظة دخول الانسان الصراع مع قوى غادرة، فهو انتصار بطولي بصرف النظر عن النتيجة.
شرف هذه المعارك في الغاية وليس في النتيجة فحسب.
الغزيون العائدون الى الحطام والخراب في طروادة الجديدة عادوا متوجين بكبرياء مضيء وتعاطف العالم ولو خسروا مدينة في حين عاد ” المنتصرون”
وقد خسروا العالم وخسروا أنفسهم وخسروا المستقبل. بدل ان ترفرف الرايات البيض فوق انقاض غزة رفرفت الاعلام الفلسطينية وهو أسوأ ما كان يتوقعه قادة الكيان.
هناك نصر بلا قيمة أخلاقية لأنه غدر وإحتيال وهناك فشل يختزن كل معاني الشرف والنصر الأخلاقي. الأمر يتوقف على” هدف” المعركة وغايتها،
وليست النتيجة.
أطلق أرنست همنغواي على هذا النوع من الفشل بعد أن يستهلك الانسان كل طاقته في الصراع ولا يستسلم بـــــــــــــ” الفشل البطولي” أو كما قال عبارته الشهيرة:
” يمكن سحق الانسان لكن هزيمته مستحيلة”.
النصر الحقيقي هو تراكم مجموعة هزائم يخرج منها الانسان حياً ويقظاً وصلباً ونظيفاً. هناك من يقرأ معارك التاريخ الكبرى بمعايير كرة قدم في الربح والخسارة وهذا الصنف يخاف من عبور ساقية لكنه يضع فشله في إطار فلسفي.
لكن ليس كل انسان. هناك من يمكن أن يُسحق أخلاقياً وجسدياً بلا صراع،
لأنه مفرغ من الآدمية ومحشو بالهشاشة. ليست الحياة هي اللون الأبيض والأسود،
بل هناك مساحات رمادية هائلة في الاسود كما في الأبيض،
والحدود القاطعة للالوان خاصية العقل الثنائي، سجين اقفاص وأسير قناعات صعدها الى درجة اليقين. قد يموت الانسان موتا جسدياً مشرّفاً،
وأحياناً يموت موتاً أخلاقياً وهو حي. الموت النفسي والأخلاقي هو أبشع أنواع الموت لأنه تعذيب مستمر رغم متانة الأقنعة.
قال أريك فروم، عالم نفس وفيلسوف:
” اذا مات الانسان نفسياً، على الرغم من أنه يحيا جسدياً، فإنه يقاد الى السقوط ويصبح خطراً على نفسه وعلى الآخرين”.
في هذا السقوط قد يجر معه كثيراً من الأبرياء كحجرة ضخمة تدحرجت من قمة جبل لن يوقفها إلا الحضيض، وهو أقذر سلوك بشري في التاريخ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى