كتاب وشعراء

الإبداع الرقمي والخوارزميات وخيال المبدع ….بقلم: ربا رباعي/الاردن

في زمنٍ تتسارع فيه النبضات الإلكترونية وتغدو الخوارزمياتُ نبضَ العالم الجديد، يُطلّ الإبداع الرقمي بوصفه مزيجاً فريداً من الفكر والعاطفة والتقنية، حيث يتحاور الإنسان مع الآلة حواراً لم يسبق له مثيل. لم يعد الإبداع حبيسَ الورق ولا مرهوناً بريشة الرسام وحدها، بل صار يتشكّل في فضاءات ضوئية تمتدّ بامتداد الكود والبيانات، في عالمٍ يفيض بالاحتمالات ويقترن فيه الخيال بالمنطق، والروحُ بالحوسبة.

الإبداع الرقمي ليس مجرّد استخدام للتقنية، بل هو فلسفة وجود جديدة؛ فحين يكتب المبدع اليوم نصّه على شاشة تتنفس الخوارزميات، أو يرسم لوحته عبر خوارزمية توليدية، فإنه لا يستعمل الآلة كأداة فحسب، بل يُقيم معها علاقة تكافل خلاق، فيها الإنسان يفكر والآلة تُنفّذ، وفيها الخيال يقود والمعادلةُ تتّبع. وقد أشار الباحثون في الدراسات الأدبية الرقمية إلى أن النص الرقمي لا يكتفي بالتعبير اللغوي بل يتحوّل إلى كيان حيّ يتفاعل مع القارئ ويُبدّل ملامحه تبعاً لتفاعله، فيغدو المتلقي شريكاً في التكوين لا مجرد متفرّج على النصّ. وهكذا تنفتح الكتابة على فضاء لا نهائي من التأويلات، تُعيد من خلاله صياغة العلاقة بين الكاتب والقارئ، بين المبدع والآلة.
غير أن هذا الانفتاح لا يمكن أن يتحقّق إلا عبر الخوارزميات، تلك السلسلة المدهشة من الخطوات التي وُلدت فكرتها في بيت الحكمة ببغداد حين صاغ محمد بن موسى الخوارزمي مفاهيمها الأولى في علم الجبر والحساب. الخوارزمية ليست مجرد مجموعة من التعليمات، بل هي عقل منظم، منهجي، يُعيد للعالم اتزانه العددي والمنطقي. واليوم، بعد قرون، عادت هذه الفكرة العربية الإسلامية لتقود عالماً بأسره نحو الذكاء الاصطناعي والتعلّم العميق، لتصبح جوهر الصناعة الإبداعية الحديثة. إن الآلة التي تولّد القصائد والمقطوعات الموسيقية وتبتكر اللوحات إنما تعمل وفق خوارزميات تحاكي أنماط التفكير الإنساني، لكنها لا تتجاوزه؛ فهي تُنتج ما تَعلمه ولا تَخلق ما لا تعرفه، تُقلّد ولا تُلهم، تُركّب ولا تحلم.
هنا يتجلى الفرق الجوهري بين الإبداع الآلي والإبداع الإنساني، فالخيال البشري ليس عملية حسابية يمكن ترميزها، بل هو جوهر الوجود الإنساني ذاته. المبدع يخطئ ويصيب، يحلم ويخاف، يتوه ويكتشف، وكل هذه التجارب الوجدانية لا يمكن للآلة أن تحياها، مهما بلغ تعقيدها. وكما يقول بعض الباحثين في علم الإبداع المعاصر: «الذكاء الاصطناعي قادر على الوصول إلى حدود المعرفة، أما الخيال البشري فهو وحده القادر على تجاوزها». فالخيال ليس أداة إنتاج، بل هو فضاء تجاوز، هو ما يمنح الفكرة طابعها الإنساني الأصيل ويحوّل المعلومة إلى معنى، والبيان إلى جمال.
ومع ذلك، فإن الخوارزميات لا تُقصي المبدع، بل تمنحه أفقاً جديداً. فهي بمثابة مرآة تتيح له أن يرى احتمالات لم يكن ليراها في ذاته. فالمبدع الذي يوظف الذكاء الاصطناعي في إنتاج عمله الفني أو الأدبي، لا يُفرّط في دوره بل يُعيد تعريفه، إذ يتحول من «منتج منفرد» إلى «منسّق خلاق» يجمع بين الحسّ البشري والقدرة الحسابية للآلة. وهكذا تتولد أعمال جديدة تتجاوز مفهوم الفن التقليدي، وتُعيد رسم حدود الإبداع. وقد أكدت دراسات حديثة في مجلات الإبداع الرقمي أن التفاعل بين الفنان والنظام التوليدي لا يُضعف الأصالة، بل يفتح باباً للتجريب الجمالي، ويُعيد الاعتبار لفكرة المشاركة الإبداعية بين الإنسان والأداة.
لكن هذه الثورة الرقمية لا تخلو من مآزقها الأخلاقية والفكرية. فالإفراط في الاعتماد على الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى تشابه الأعمال وتكرار القوالب، فيغدو العالم مشبعاً بصورٍ متشابهة وأصواتٍ مستنسخة، تفقد خصوصيتها وتميّزها الإنساني. كما أن إشكالية الملكية الفكرية تطرح نفسها بحدة: من هو صاحب العمل الذي صاغته خوارزمية تحت إشراف مبدع؟ وهل يُمكن نسب الإبداع إلى كيان لا يملك وعياً أو شعوراً؟ إن هذه الأسئلة لا تندرج في نطاق القانون وحده، بل تمتد إلى عمق الفلسفة الجمالية والأخلاقية.
من جهة أخرى، تُظهر الخوارزميات في بعض الأحيان تحيزاً في ما تُنتجه، لأنها تنعكس على البيانات التي تغذّيها. فإذا كانت تلك البيانات منحازة ثقافياً أو معرفياً، فإن نتائجها ستعيد إنتاج التحيز ذاته، مما يجعل الإبداع الرقمي مهدداً بالتكرار الثقافي أو الانغلاق على أنماط غربية أو استهلاكية. ومن هنا تبرز الحاجة إلى بناء خوارزميات عربية تُعبّر عن ذائقتنا وهويتنا وتاريخنا الحضاري، حتى لا نصبح مجرد مستهلكين لإبداع يولد في مختبرات الآخرين.
ورغم كل هذه التحديات، يظل المستقبل مفتوحاً على أفقٍ مدهش. فالإبداع الرقمي سيقودنا نحو مرحلة يصبح فيها المبدع قادراً على التفاعل مع أدواته في الزمن الحقيقي، فيرسم فكرةً وهي تتكوّن أمامه، ويكتب نصاً يتحاور معه، ويؤلف لحناً يسمع تجاوبه قبل اكتماله. لن يكون الإبداع فعلاً فردياً منعزلاً، بل تجربة تفاعلية تشترك فيها العقول البشرية والآلات الذكية على نحوٍ غير مسبوق. وقد لا نبالغ إن قلنا إننا نعيش بدايات عصرٍ جديد من «الوعي الإبداعي المشترك»، حيث لا يُقصي أحد أحداً، بل تتكامل القدرات لتصوغ فناً جديداً يتجاوز الحدود المادية واللغوية.
في نهاية هذا التأمل، يمكن القول إن الخوارزميات ليست نقيض الخيال بل امتداده في بعدٍ آخر، وأن الإبداع الرقمي ليس موتاً للفن بل ولادته الثانية في رحم التقنية. ما تحتاجه هذه الحقبة هو مبدعٌ لا يخاف الآلة، بل يروضها، يعلّمها كيف تُنصت إلى نبض القلب، وكيف تُحاكي الشعر دون أن تقتله. ولعل أعظم ما يمكن أن نطمح إليه هو أن نخلق فناً يذكّر الآلة بأنها ما تزال تتعلّم من الإنسان، لا العكس. فالإبداع سيبقى دوماً فعلاً إنسانياً، مهما تعددت الشاشات وتطورت الأكواد؛ لأن الروح التي تنبض خلف كل عملٍ فني لا تُصاغ بلغة البرمجة، بل بلغة الدهشة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى