رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :العنف الخفي للرمز

كل النظم الدكتاتورية والاحزاب الشمولية والجماعات والمنظمات الموحدة الاهداف تقوم على سلطة الرمز، صورا، وشعارات، وخطابات، وتماثيل ويجري عادة صناعة تاريخ له كما لو جاء حاملاً النور الى الظلام:
في الادبيات النازية هكذا تم وصف هتلر كما تم وصف صدام حسين في كتب كثيرة:
” صدام حسين قائد وتاريخ” و ” صدام حسين الرجل القضية والمستقبل” و” صدام حسين أمة في رجل” وغيرها الكثير وهؤلاء انقلبوا عليه بعد الاحتلال. فليست علاقة الاتباع بالرمز تقوم دائما على الولاء الحقيقي بل تشكل الانتهازية والخوف والبحث عن هوية فردية سببا للعلاقة.
تتداخل السلطة الاجتماعية مع السلطة السياسية لكن عبر نسق غير مستقيم وغير خطي بل من خلال شبكة علاقات خفية وغير واضحة مما يوهم الانسان انهما سلطتان منفصلتان كما في الخطاب السياسي التبسيطي. يتحدثون عن مساوئ السلطة السياسية ولا يقتربون من السلطة الاجتماعية المنتجة لها بسبب العطب المعرفي والثقافة السياسية الشعاراتية السائدة منذ أوائل القرن الماضي.
تقوم سلطة الرمز على الهيمنة على الاتباع عبر شبكة دقيقة ومعقدة من العلاقات،
وأول مستهدف في هذه الهيمنة التي تأخذ طابعاً خفياً هو الجسد والمشاعر،
حتى أن جمهور الأتباع يفقد التحكم بنفسه لدى رؤية الرمز،
وهو غير معني بخطابه لأن الرمز نفسه هندس العلاقة على أساس عنف المشاعر والحنين للماضي والذكريات والولاء وبنى سلطته على هذا الاساس. لكن كل هذه العناصر تتحمل التغيير وهو ما لا يعرفه الرمز.
يخطيء من يظن أو يعتقد أن الرمز يمارس عنفه ضد الخصوم والأعداء فحسب، بل العنف الأشد الذي يمارسه الرمز هو ضد المريدين والأتباع،
وهو عنف مخفي لأنه يمر بشبكة معقدة من العلاقات العاطفية والنفسية،
غير عقلانية بل هي في الأساس علاقة إخضاع لأنها تقوم على مبدأ التنازل والارتهان للرمز والغاء التفكير،
وعندما يسلم المريد نفسه الى الرمز يتنازل عن حريته وهذا شكل آخر خفي من العنف خلف قناع التضحية.
عنف الرمز ضد الأتباع عندما يحول الولاء العقلاني الى ولاء عاطفي ويفرغ العقل من السؤال لأن الأجوبة جاهزة عندما ينزع هؤلاء كل ما يتعلق بكيانهم الانساني والتبرع به للرمز.
آخر ما يخطر ببال التابع هو الحرية او الديمقراطية لكنه يبحث عن قبول الرمز
لان الطاعة أهم من الحرية وبهذه الطريقة كمثال خلقت الاحزاب الثور ـــــ ية مخلوقات مشوهة وببغاوات ملقنة ثم تخلت عنها نهاية الايديولوجيا والسرديات الكبرى المفسرة لكل شيء دون ان تفسر شيئاً. ان سلطة الرمز ليست في اتجاه عقيدة واحدة بل في اتجاهات متعددة وغالبا ما نختزل الرمز في اتجاه واحد.
عندما يغضب الرمز لسبب ما من الأتباع يتم تفسير هذا الغضب على انه شعور” أبوي” منه تجاه الاتباع وهي عودة منقحة لفكرة” الأب القائد” في النظام السابق، أي الجمع بين السلطة الابوية Patriarchy والسلطة السياسية. من لا يؤمن بالقائد كزعيم سياسي عليه اخلاقيا احترام الأب. في الحالتين تحت هيمنة السلطة نفسها.
هناك خطأ شائع هو الآخر في الإعتقاد أن سلطة الرمز تتمحور في مكان واحد وهذا غير صحيح حسب الفيلسوف بيير بورديو في كتابه: الرمز والسلطة، بل هي شبكة علاقات نفسية وروحية،
وفي غالب الأحيان يكره الرمز كل ما له علاقة بفكرة التمرد الفكري والعصيان والخروج عن الطاعة وفي هذه الحالة على ” المارق” تحمل عقوبات كالنبذ والتشهير والوصم وحتى التصفية الجسدية لو توفرت الفرص،
لأن التمرد الفكري يشكل التهديد الأعمق والأخطر لهيمنته وهو قادر على مواجهة وسحق الأعداء بالاتباع،
لكنه عاجز عجزا معرفياً عن مواجهة تمرد الاتباع ،
لذلك يدفع بهم للطقوسية وممارسة الطقوس وهي نوع من الضبط النفسي كما في المصحات النفسية ومدارس الاطفال واجتماعات الاحزاب وهي سلسلة طقوس وشعائر خارج المجتمع العام
لكنها تبدو كأهداف وقيم في الظاهر تشد الأنصار للرمز ومنها الماضي والحنين وحفلات المراثي ومواقف التأبين “البطولية”، أي كل ما يجعل صلتهم بالحاضر ضعيفة و هشة، وكل ما يجعلهم في حالة غيبوبة،
وهذا شكل من أشكال العنف عندما تأخذ هؤلاء خارج الواقع وخارج الزمن
وخارج أجسادهم.
في المنافي الديمقراطية تمارس هذه الاحزاب مع الجماعات الموالية حفلات الطقوس للفارين الاتباع وتثبيتهم في تاريخ واحد بدل سياسات الانفتاح على الحياة اولا وعلى العالم ثانيا. لقد شاهدت مراسيم دفن فنان عراقي في المنفى وكانت شعارات الحزب ورموزه واضحة في المقبرة. فكرت كيف أن موتى يدفنون ميتاً؟
من الصعب جدا قبول فكرة ان سلطة رمزية تريد الديمقراطية، لأن الرمزية والديمقراطية أمران متناقضان لان العلاقة تبعية.
علاقة الاتباع بالماضي اليوم ليست كعلاقة الآباء والأجداد به، وعلى الرمز أن يكافح كل لحظة لكي يبقى حياً في عقول هؤلاء والاهم مسيطراً،
وعليه أن يبقي على جذوة الحنين للماضي ـــــــ وليس الحاضر ــــــــ مشتعلة،
لأن على الطرف الآخر من المواجهة أعداء يحاربون أيضاً بإسم الرموز،
وفي حالات أو مصادفات غريبة قد تكون الرموز نفسها على طرفي الصراع.
في الأدب أيضاً هناك” الحرس القديم” من رموز ونقاد وكتاب وشعراء وهؤلاء لهم مكانة خاصة بعد أن أسست لهم أحزابهم، وليست أعمالهم الأدبية، منزلة خاصة من خلال الترويج والدعاية.
حتى في عالم “الشقاوات” أو الفتوة هناك رموز وأسماء ومعارك شهيرة وتقاليد خاصة وسلطة في الأحياء والمقاهي والحانات ولو تواجد إثنان من هؤلاء في سجن واحد، سيحاول أحدهم فرض سلطته على الآخر وعلى السجن. ممارسة السلطة متعة واغراء واغواء. ممارسة السلطة لذة ولو على طائر.
لا تقبل السلطة سواء سلطة نظام أو جماعة أو فرد المنافسة بل تحجز الزمان والمكان والشرف ــــــــــــ كل عدو أو مختلف غير شريف ومريض نفسياً في عالم الكهنة الجدد ـــــــــــ وتحتكر الحقيقة والحاضر والمستقبل ولا يمكن تواجد سلطتين أو عصابتين في مكان واحد: إما المحو أو الدمج، إما الكل أو لا شيء. لذلك قام النظام السابق في اوائل السبعينات بتصفية” الشقاوات” جسدياً في الشوارع إلا من إندمج في الأجهزة الأمنية ومارس الدور نفسه في العنف الذي صار شرعياً وقانونياً بل ثورياً وأخلاقياً.
سلطة الرمز ليست أبدية وتتقوض في أية لحظة لأنها جاءت في زمن تهب فيه رياح التغيير والمعرفة من كل مكان، ولم تعد الصومعة أو المحراب مكان اللقاء في فضاء معرفي مفتوح يطرق بعنف على سلطة الرمز بقوة
رغم كل محاولاته جرهم للماضي وطقوسه وحفلاته.
لا تستطيع اية سلطة عدوانية ان تحكم بالجيوش والاجهزة الامنية والقوة والسجون، لذلك تلجأ للــــ” الاعتقال الخفي” من خلال منظومة طقوس وحفلات وخلق مناسبات ومؤلفات واغاني ومظاهرات الولاء تجمع الحشود وتخلق بينها روابط بهذه الطرق الالتفافية،
لكن روابط الحشود سرعان ما تتلاشى في احداث جديدة عاصفة وهذا هو كل تاريخنا الذي لم نتعلم منه.
ـــــــــــ من التقاليد الرائعة في النرويج يحق للمواطن الانتماء لجميع الأحزاب في وقت واحد دون أن تكون هناك فلسفات كونية مفسرة لكل شيء بل خطط تنمية عن الامومة والطفولة والصحة والتعليم والسكن ورفاهية المواطن ، وأما الفلسفة والعقائد فموضوع شخصي. كان نظام صدام حسين يحكم بالاعدام لكل من انتمى لغير الحزب الحاكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى