حين يستنطق الناقد المتمرس النصوص الإبداعية.. فتجيبه……بقلم محمد المحسن
ليس كل قارئ ناقدًا،وليس كل ناقد متمرسا. التمرس هنا يعني امتلاك الأدوات والمعرفة والحدس الذي يمكنه من القيام بعملية "الاستنطاق" هذه.

حين يستنطق الناقد المتمرس النصوص من زاوية نقدية فنية وأسلوبية تختزل جوهر النقد الحقيقي. يرتقي بالنقد حينها من مجرد شرح المحتوى أو إصدار أحكام قيمة،إلى عملية كشف وإيضاح للآليات الداخلية التي تجعل النص الأدبي يحقق تأثيره الجمالي والفكري.إنها نظرة إلى الأدب كنسج محكم من الخيارات الواعية،ومهمة الناقد هي إظهار براعة هذا النسج وكيفية تحققه.فالنقد هنا،هو عملية خلق متجددة..
والناقد المتمرس لا يفسر النص فقط،بل يشارك في كتابته من جديد،فيمنحه أبعاداً جديدة وحياة أخرى.إنها محاورة جميلة حيث يولد المعنى من بين سطور النص ونظرات الناقد،ليقدم لنا في النهاية عملاً إبداعياً مكتملاً.
وأسلوب الاستنطاق الناجح ليس استعمارًا للنص أو فرضًا لرأي خارجي عليه،بل هو حوار خلاق. الناقد هنا يشبه المحاور الذكي الذي يطرح أسئلة ذكية على النص ليسمعه وهو يتكشف بكل تعقيداته.النتيجة ليست “هذا ما أراه أنا” بل “انظروا ما الذي كشفه لنا النص عن نفسه”
وبلا شك،فإن الإعجاب بأسلوب الناقد في “استنطاق النصوص”هو إعجاب بفنٍ راقٍ وقدرة تحليلية فذة.إنه ليس مجرد قراءة،بل هو إحياء للنص وكشف عن أسراره.
سقت هذه المقدمة للقراء الكرام،إجلالا وإكبارا للكاتب المبدع والناقد الفذ الأستاذ طه عبد الرحمن،الذي أبدع في استنطاق نصي الشعري الموسوم ب” أما آن للوجع العتيق.أن يتفادى دروبي…؟! “
وإليكم تطريزات أنامله،ولكم حق التفاعل :
“إن هذا النص الشعري للأستاذ محمد المحسن يمثل لوحة تعبيرية مكثفة،تجسد صراع الذات بين ألم الوجود واشتياق الروح،بين ثقل الحاضر وشفافية الماضي.إنه سيمفونية وجدانية تتراقص فيها أنغام الحزن وألوان الشوق على أوتار القلب الحزين.
البنية الفنية والهيكل الدرامي: تمثل القصيدة بناءً دائرياً متماسكاً يبدأ بالاستفهام الوجودي المأساوي: “أما آن للوجع العتيق أن يتفادى دروبي؟!” وينتهي به،مما يخلق إحساساً بالحيرة الكونية والقلق الوجودي.هذا البناء الدائري يرمز لاستمرارية المعاناة الإنسانية ودورانها في فلك الوجود كدائرة مغلقة لا مفر منها.وقد جاءت القصيدة في خمسة مقاطع متتابعة،يشكل كل مقطع منها فصلاً من فصول هذه المأساة الإنسانية:
· المقطع الأول: يشكل المقدمة التراجيدية للحالة النفسية
· المقطع الثاني: يرسم ملامح الانتظار والترقب الأليم
· المقطع الثالث: يستحضر صورة الحبيبة في ذروة الشوق
· المقطع الرابع: يعود بالذاكرة إلى ماضي الصبا والبراءة
· المقطع الخامس: يشكل الخاتمة الفلسفية والتصالح مع القدر
المستوى الدلالي والرؤية الفلسفية: يتمحور النص حول ثنائيات متضادة متصارعة: الألم والأمل، الظلمة والضياء،الصمت والصريخ،الماضي والحاضر،الذاكرة والنسيان.هذه الثنائيات تخلق حواراً داخلياً عميقاً في نفس المتلقي،وتجعل من القصيدة مسرحاً للصراع الإنساني الخالد بين الروح والمادة،بين الخلود والفناء.
فالعبارة الاستهلالية “أما آن للوجع العتيق أن يتفادى دروبي” تحمل دلالة عميقة على الألم المزمن الذي أصبح جزءاً من كينونة الشاعر،بل أصبح هوية وجودية لا فكاك منها. إنه الوجع “العتيق” الذي يشي بأنه قديم متجذر،كأنه من طينة الخلق الأولى.
الرمزية الفنية والأبعاد الفلسفية: تتجلى في النص رموز متعددة الطبقات تحمل أبعاداً وجودية عميقة:
* الوجع العتيق: ليس مجرد ألم عابر،بل هو رمز للمعاناة الإنسانية المتجذرة في أعماق الكينونة، ذلك الألم الوجودي الذي يولد مع الإنسان ويرحل معه.
* النورس: في الإهداء “أطلقتني نورسا للعناق الوجيع” يرمز للحرية المشوبة بالألم، فالنورس يحلق في الأعالي لكنه يعانق الألم. إنه صورة للروح المتطلعة إلى الحرية رغم علمها بأن الحرية تحمل في طياتها الجرح.
* النرجس: “أحيل أيامي إلى نرجس اعتراه الأفول” يمثل الجمال الزائل والأمل الذي يعتريه الأفول، إنه رمز للحياة الجميلة القصيرة، كزهرة النرجس التي تذبل سريعاً.
* العطر: “وأنتِ تضوّع عطرك بين الثنايا” يرمز للذكريات والعلاقات الإنسانية التي تترك أثرها كالعطر يعلق في الأماكن ولا يفارقها.
النسيج اللغوي والبناء الجمالي: تميز النص بلغة شعرية رفيعة، تجمع بين جزالة اللفظ وعمق المعنى ورشاقة التعبير. لغة تتراوح بين الشفافية والكثافة،بين البوح والإيماء.وقد استخدم الشاعر تراكيب لغوية مكثفة تحمل في طياتها عوالم دلالية واسعة،مثل:
“أحيل أيامي إلى نرجس اعتراه الأفول” التي تمثل صورة بيانية رائعة تجسد تحويل الحياة إلى جمال زائل،وكأن الشاعر يحول أيامه العادية إلى قصيدة جميلة محكوم عليها بالزوال.
“وأنا أولم الليل نذرا..وألبس أبهى ثيابي” صورة ترسم حالة الاستعداد والانتظار للقاء الحبيبة، وكأنه يستعد لطقس مقدس.
-الإيقاع الداخلي والموسيقى الخفية: تميز النص بإيقاع داخلي متوتر،يعكس حالة الشاعر النفسية المأزومة.هذا الإيقاع ينتقل بين الهدوء والعاصفة، بين الصريخ والهمس،بين الاندفاع والتردد،مما يخلق موسيقى نفسية عميقة تتناغم مع حالات الشاعر الانفعالية.فجملة “مرّ عطر مسرّاتنا..ومرير هو الوقت” تمثل نقلة إيقاعية من الحنين المرير إلى مرارة الواقع.
-الرؤية الفلسفية والوجودية: يقدم النص رؤية وجودية تبحث عن المعنى في ظلام الحياة. فالشاعر يحاول أن يجد مخرجاً من هذا الألم الوجودي،لكنه يظل أسيراً لدائرة الوجع.هذه الرؤية تذكرنا بأسئلة الوجود الكبرى التي شغلت الفلاسفة والأدباء عبر العصور.
إن الشاعر هنا لا يصور حالة فردية بقدر ما يرسم مأساة الإنسان الحديث الذي فقد براءته الأولى، وأصبح غريباً في هذا العالم: “في ليل مدينتي حيث لا شيء يشبهني”. إنها صورة الاغتراب الوجودي الذي يعيشه الإنسان المعاصر.
الخاتمة: التصالح مع القدر: في المقطع الأخير، يبدو أن الشاعر يصل إلى حالة من التصالح مع الوجع، حيث يقدم السلامات المتعددة: “سلاما على ما تبقّى..سلاما على تعتعة الخمر..سلاما على أمي..”. إنها حالة من التسليم بالقدر والتصالح مع الذات والعالم.
ويختم الشاعر بصورة بحرية رائعة: “ها هنا.. أرتّق الموج، وقد أبحرت روحي دون أشرعة”. إنها صورة للإنسان الذي يركب أمواج الحياة بلا أدوات، متوكلاً على قوة روحه فقط. ثم يصل إلى الحكمة العميقة: “فليس سوى غامضات البحار، تقرأ الغيم وتنبئ بما خبأته المقادير”.
ختاماً،يمكن القول إن هذا النص يمثل نموذجاً رفيعاً للشعر الوجداني الفلسفي المعاصر،حيث استطاع الشاعر أن يخلق من الألم الفردي رؤية إنسانية شاملة،تمس وجدان كل قارئ وتثير في نفسه أسئلة الوجود الخالدة.لقد نجح في تحويل المعاناة الشخصية إلى فن رفيع،والألم الفردي إلى حكمة إنسانية.
فهو نص يستحق أن يقرأ بقلب المفكر وعين الناقد وروح الشاعر،فهو مرآة للقلب الإنساني في صراعه الأبدي مع الحياة والموت،والألم والأمل،والوجود والعدم.
طه دخل الله عبد الرحمن
*الكلام على الكلام صعب..وأكتفي بالقول لهذا الأستاذ/ الناقد الفذ طه دخل الله عبد الرحمن،لك مني أنبل التحايا وسلة ورد تعبق بعطر قرطاج ( تونس)
القصيدة موضوع المقاربة :
أما آن للوجع العتيق. أن يتفادى دروبي…؟!
الإهداء: إلى تلك التي أطلقتني نورسا للعناق الوجيع..
(1)
بين جرحَين كنّا معا في التشظي. كنّا
وإذ نال الحزن من أضلعي فلبثت
وأنتِ تضوّع عطرك بين الثنايا..
وظللت وحيدا
ومنهمرا في الفصول.
في ليل مدينتي حيث لا شيء يشبهني…!
غير نجمة أراها تضيء
وتخبو
أراني أرنو إليها. علّها تفتح لي دربا إليكِ
فما زلت أخشى عليكِ من شائك الضوء..
ومازلت. أحيل أيّامي
إلى نرجس اعتراه الأفول..
(2)
مرّ عطر مسرّاتنا..
ومرير هو الوقت
لكنّ طيفك أدخلني في ضياء الثمار
وقد فتح الوجد أبوابه للرؤى
ولاح نجم يضيء على عاتق الليل
فظللت أنتظر..
ثقيل هو الإنتظار…!
طائر الصحو لا يحتفي بضيائي
يطارد ضوئي..
يوغل في المدى..
ثمّ يحطّ على وجع بأصل الرّوح
فتلمّ الحدائق أورادها..
ويذبل ورد النهار..
(3)
مـــــــذ تخيّلتكِ. وأنت تعبرين بساط الخزامى..
تلجين فلوات الرّوح
في مُترف الثوب..
وتمدّين أصابعك
في خيوط الحرير المذهّب..
لكِ هذا الحمام-الجنوبيّ-
علّمته الهديلَ. في زمن للبكاء
وعلّمتكِ كيف يرشح من الحلم
عشق
وماء..
صرخت بملء الرّوح علّ يجيء طيفُك
فأنا أولم الليل نذرا.
وألبس أبهى ثيابي-
ولكنّي وجدتكِ في برزخ الوجع..
بين البكاء..
وبين الغناء
ومن معجزات الزمان..
يتجانس فيكِ
الثرى
والفضاء..
(4)
أما آن للوجع العتيق أن يتفادى دروبي…؟!
ويعود بي الزّمن إلى حقل صباي
يوم كان اليمام ينام بحضني..
وبقربي تدنو القطوف
وأراك كما كنت أرسمكِ على دفتري المدرسي..
يتهودج طيفُكِ في ثوب شفوف..
وأراكِ ثانية وقد لا مس عطرُك
نرجسَ الرّوح..
ثم. ألتقيكِ وقد نضج النهد قبل الأوان..
(5)
كانت لي أمنية أن أراكِ كما كنتُ..
قبل البكاء
ألا أرى،في شهقة الريح عاصفتي
لا أرى في دفتر عمري
ما كنت خبّأته من شجن ومواجع..
سلاما على ما تبقّى
سلاما -على تعتعة الخمر-
سلاما على أمّي التي أحنو على طيفها
ما استطعت
سلاما على كلّ الرّمال التي احتضنت حيرتي
سلاما على غيمة ترتحل
عبر ثنايا المدى..
ها هنا.. أرتّق الموج، وقد أبحرت روحي
دون أشرعة
ترى. هل أقول للزبد إذا ساح إليّ:
دَعني “أقرأ روح العواصف”
فأنتَ لست في حاجة للبكاء
دَعيني أطرّز عمري
وشاحا للتي سوف تأتي
عل ّ يجيء الموج
بما وعدته الرؤى
فليس سوى غامضات البحار تقرأ الغيم
وتنبئ بما خبّأته المقادير
وفاض منـــــه الإنــــــــاء..