د.حسن العاصي يكتب :قمة بلا ضمير: حين يُغسل الدم الفلسطيني بالتصفيق..
ويُكتب مصيرك بيد من قتلك

عُقدت قمة “السلام” وتم توقيع اتفاقية إنهاء الحرب على جثة العدالة، في وقت تتبدّل فيه المفاهيم وتُعاد صياغة القيم وفقاً لموازين القوة لا لمبادئ الحق. هذا ما حصل في قمة شرم الشيخ التي انعقدت تحت عنوان “السلام في الشرق الأوسط”، بينما كانت غزة تحترق، والدم الفلسطيني يُسكب بلا توقف. فقد اجتمع قادة 31 دولة ومنظمة دولية، ووقّعوا وثيقة إنهاء الحرب، دون أن يُستشار الطرف الذي يُدفن تحت الركام، ودون أن يُمنح الفلسطينيون حقهم في صياغة مصيرهم. لقد تحوّلت القضية من نضال تحرري إلى ملف يُدار بين العواصم، ومن مأساة إنسانية إلى أزمة سياسية تُحلّ عبر صفقات لا تعترف بالعدالة.
وعلى الرغم من أن الحرب التي استدعت هذا الحشد كانت تدور رحاها في غزة، وأن الطرف الفلسطيني هو المعني الأول بها، فإن الحضور الفلسطيني جاء خجولاً، هامشياً، لا يتناسب مع حجم المأساة ولا مع مركزية القضية.
في مشهدٍ بدا أقرب إلى مسرحية دبلوماسية مكتوبة مسبقاً، وقّع قادة الولايات المتحدة ومصر وتركيا وقطر وثيقة اتفاق إنهاء الحرب، بدعوة من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي وصف الحدث بأنه “يوم عظيم للشرق الأوسط”. لكن هذا “العظيم” لم يكن عظيماً في أعين من فُرض عليهم السلام دون أن يُستشاروا، ولا في وجدان من رأى أن توقيع وثيقة مصيرية كهذه تمّ دون تمثيل حقيقي للضحية، ودون اعتراف بجذور الصراع أو حقوق الشعب الفلسطيني.
إن ما جرى في شرم الشيخ لا يمكن قراءته بوصفه مجرد خطوة نحو وقف إطلاق النار، بل هو لحظة كاشفة عن طبيعة التوازنات الجديدة في الإقليم، وعن إعادة تشكيل مفهوم “السلام” ليصبح أداة لإعادة إنتاج الهيمنة، لا لإنهاء الظلم. لقد تم تغييب الفلسطينيين عن طاولة القرار، في مشهد يعيد إلى الأذهان اتفاقات سابقة صيغت في غيابهم، وكأن التاريخ يعيد نفسه، ولكن هذه المرة تحت غطاء دولي أوسع، وبمباركة عربية أكثر اتساعاً
فهل يمكن حقاً الحديث عن سلام يُصاغ دون حضور الضحية؟ وهل يُمكن اعتبار توقيع اتفاق بين أطراف غير معنية مباشرة بالصراع خطوة نحو العدالة؟ أم أن ما جرى هو تثبيت لواقع سياسي جديد، تُدار فيه القضايا المصيرية عبر وكلاء، وتُهمّش فيه الشعوب لصالح صفقات إقليمية ودولية؟
هذه الأسئلة، وغيرها، تفتح الباب لتحليل معمّق لما جرى في شرم الشيخ، ليس فقط بوصفه حدثاً دبلوماسياً، بل كعلامة فارقة في مسار القضية الفلسطينية، وفي فهمنا لما يُسمّى “السلام” في زمن التحالفات المتغيرة والخرائط السياسية المعاد رسمها.
هذه القمة لم تكن لحظة سلام، بل كانت لحظة كشف: كشفٌ لانحياز أميركي مطلق لإسرائيل، كشفٌ لتواطؤ عربي يُغلف الصمت بالمجاملات، وكشفٌ لاختلال المعايير الإنسانية التي تُمنح فيها القيمة فقط لمن يملك النفوذ. لقد غاب الأسرى الفلسطينيون عن النقاش، بينما تصدّر ملف الرهائن الإسرائيليين المشهد، وغابت العدالة عن الوثيقة، بينما حضرت المصالح والتحالفات.
في هذا المقال، نُفكك بنية القمة، ونحلل رمزية تغييب الفلسطينيين، ونكشف الدور الأميركي في هندسة الإقصاء، ونفضح الخطاب الإعلامي الذي زيّف الوعي، ونرصد التحولات العربية التي باتت تُناصر الاحتلال باسم الواقعية. كما نُسلّط الضوء على المفارقة الأخلاقية بين الرهائن والأسرى، ونطرح السؤال الجوهري: هل يمكن للسلام أن يُولد من رحم الإقصاء؟ وهل يُمكن للعدالة أن تُوقّع بيد من تلطخت أصابعه بالدم؟
تفكيك بنية القمة: هندسة الإقصاء وتجميل الهيمنة
قمة شرم الشيخ لم تكن مجرد اجتماع طارئ لوقف إطلاق النار، بل كانت نموذجاً صارخاً لما يمكن تسميته بـ”هندسة الإقصاء السياسي”، حيث صيغت بنية القمة على نحو يُقصي الطرف الفلسطيني من موقع الفاعلية، ويُعيد إنتاج الصراع من خلال تمثيل رمزي لا يملك سلطة القرار. فبينما اجتمع قادة 31 دولة ومنظمة دولية، وتصدّر المشهد ممثلو الولايات المتحدة ومصر وتركيا وقطر، بدا الحضور الفلسطيني هامشياً، وكأن القضية التي تُناقش لا تخصه إلا من باب المجاملة البروتوكولية.
البنية التنظيمية للقمة كشفت عن خلل جوهري: الأطراف التي لا تعيش تحت القصف، ولا تُحاصر، ولا تُهجّر، هي من تولّت صياغة وثيقة “السلام”، بينما الطرف الذي يُعاني يومياً من الاحتلال والعدوان، لم يُمنح سوى مقعد خلفي في قاعة القرار. هذا ليس مجرد تجاهل، بل هو إعادة تعريف للشرعية السياسية، حيث يُمنح الحق في التوقيع لمن يملك النفوذ، لا لمن يملك الجرح.
الوثيقة التي وُقّعت لم تكن نتيجة مفاوضات متكافئة، بل كانت إعلاناً أحادياً لتوازنات إقليمية جديدة، تُدار فيها الحروب وتُنهى عبر صفقات بين القوى الكبرى، دون اعتبار للعدالة أو للحقوق التاريخية. إن توقيع اتفاق بين أطراف غير معنية مباشرة بالصراع، دون تفويض من الضحية، يُحوّل السلام إلى أداة لإعادة إنتاج الهيمنة، لا لإنهاء المأساة.
حتى لغة القمة كانت مشبعة بالرمزية المضلّلة: “يوم عظيم للشرق الأوسط”، كما وصفه الرئيس الأميركي، هو في الحقيقة يوم يُكرّس فيه تغييب الفلسطينيين عن طاولة القرار، ويُعاد فيه رسم خرائط النفوذ دون استشارة أصحاب الأرض. فالقمة لم تكن منصة للحوار، بل كانت مسرحاً لتثبيت واقع سياسي جديد، تُدار فيه القضايا المصيرية عبر وكلاء، وتُهمّش فيه الشعوب لصالح تحالفات مؤقتة ومصالح استراتيجية.
إن تفكيك بنية هذه القمة يكشف عن منطق جديد في إدارة الصراعات: منطق يُفضّل الاستقرار على العدالة، ويُراهن على الصفقات لا على الحقوق، ويُعيد تعريف “السلام” بوصفه اتفاقًا بين الأقوياء، لا اعترافاً بإنسانية الضعفاء.
رمزية تغييب الفلسطينيين: حين يُختزل الوجود إلى حضور خجول
في قمة شرم الشيخ، لم يكن غياب الفلسطينيين عن طاولة القرار مجرد تفصيل بروتوكولي، بل كان فعلاً رمزياً كثيف الدلالة، يُعبّر عن منطق سياسي متجذر في التعامل مع القضية الفلسطينية: منطق يرى الفلسطينيين كعقبة يجب تجاوزها، لا كأصحاب حق يجب الإنصات إليهم. لقد حضر الرئيس محمود عباس، نعم، لكنه حضر كظلٍّ لا كصوت، كإشارة لا كفاعل، في مشهد يُعيد إنتاج الإقصاء تحت غطاء المشاركة الشكلية.
هذا التغييب لم يكن عفوياً، بل كان جزءًا من هندسة سياسية تُعيد رسم خريطة الشرق الأوسط دون الفلسطينيين، وكأن وجودهم بات فائضاً عن الحاجة، أو غير ضروري في معادلة “السلام”. إن تغييبهم عن توقيع وثيقة إنهاء الحرب، رغم كونهم الطرف الأكثر تضرراً، يُحوّلهم من أصحاب قضية إلى متفرجين على مصيرهم، ويُكرّس منطق الوصاية الإقليمية والدولية على قرارهم الوطني.
الرمزية هنا قاتلة: أن يُوقّع الآخرون وثيقة باسمك، أن يُحدّد مصيرك دون استشارتك، أن تُستدعى فقط لتُضفي شرعية شكلية على اتفاق لم تُشارك في صياغته. هذا ليس مجرد تجاهل، بل هو نزعٌ ممنهج للوكالة السياسية، وإعادة تعريف للهوية الفلسطينية بوصفها هامشاً في سردية دولية تُفضّل الاستقرار على العدالة، وتُراهن على الصفقات لا على الحقوق.
إن تغييب الفلسطينيين في قمة شرم الشيخ يُعيد إلى الأذهان مشاهد تاريخية مشابهة، من كامب ديفيد إلى أوسلو، حيث كان الحضور الفلسطيني دائماً مشروطاً، محدوداً، ومُداراً من الخارج. لكن الفارق اليوم أن هذا التغييب بات أكثر علانية، وأكثر وقاحة، وكأن العالم لم يعد يشعر بالحاجة حتى إلى التظاهر بالإنصاف.
في الوقت الذي تُدار فيه القضايا عبر تحالفات عابرة للحدود، يصبح تغييب الفلسطينيين ليس فقط علامة على اختلال التوازن، بل مؤشراً على انهيار المعايير الأخلاقية في صناعة القرار الدولي. فالقضية لم تعد تُناقش بوصفها مأساة إنسانية أو صراعاً على الأرض والهوية، بل كملف قابل للتدوير بين العواصم، تُحلّ عقده عبر تفاهمات بين أطراف لا تسكن الجرح.
الخطاب الإعلامي المصاحب للقمة: صناعة الوهم وتجميل الإقصاء
الخطاب الإعلامي الذي رافق قمة شرم الشيخ لم يكن مجرد تغطية صحفية لحدث دبلوماسي، بل كان جزءًا من عملية سياسية متكاملة تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي العام حول طبيعة الصراع في غزة، وتجميل مشهد الإقصاء الفلسطيني تحت غطاء “السلام”. فقد تصدّرت العناوين كلمات مثل “اتفاق تاريخي”، “يوم عظيم للشرق الأوسط”، و”خطوة نحو الاستقرار”، بينما غابت تماماً مفردات مثل “العدالة”، “الاحتلال”، و”الحقوق الفلسطينية”، “الدولة الفلسطينية”، وكأن الحرب كانت مجرد خلل مؤقت بين أطراف متكافئة، لا مأساة مستمرة تُمارَس على شعب أعزل.
هذا الخطاب لم يكتفِ بتجاهل الفلسطينيين، بل أعاد صياغة الرواية بحيث يصبح الطرف المعتدي جزءًا من الحل، والطرف المعتدى عليه مجرد خلفية رمزية. فالإعلام الدولي والعربي الرسمي تعامل مع توقيع الاتفاق وكأنه إنجاز دبلوماسي، دون أن يسأل: من وقّع؟ ومن غاب؟ ومن يملك الحق في تحديد شروط السلام؟ لقد تم التركيز على صور المصافحة، والابتسامات، والبيانات المشتركة، بينما تم تهميش صور الدمار، والضحايا، والمقاومة، في محاولة لإعادة إنتاج سردية تُرضي الممولين وتُخدّر الجماهير.
اللافت أن بعض وسائل الإعلام العربية تبنّت الخطاب الأميركي حرفياً، واحتفت بتصريحات ترمب دون تمحيص، وكأنها تخلّت عن دورها النقدي لصالح دور ترويجي. أما الإعلام الفلسطيني، فقد وجد نفسه بين خيارين: إما الصمت المُرّ، أو الصراخ في فراغ لا يسمعه أحد، في ظل سيطرة الرواية الرسمية على المنصات الكبرى.
إن الخطاب الإعلامي المصاحب للقمة لم يكن بريئاً، بل كان أداة لإعادة تشكيل الإدراك السياسي، وتوجيه الانتباه بعيداً عن جوهر القضية. لقد تم تحويل القمة إلى حدث احتفالي، لا إلى لحظة مساءلة، وتم تسويق الاتفاق كحلّ، لا كصفقة، في تجاهل تام للسياق التاريخي والحقوقي للصراع.
في النهاية، لم يكن الإعلام مجرد ناقل للحدث، بل كان شريكاً في صناعته، وفي تزييف معانيه، وفي ترسيخ منطق يُفضّل الصورة على الحقيقة، والتهدئة على التحرر، والصفقة على الكرامة.
الدور الأميركي: هندسة “السلام” بيدٍ ملوثة بالدم
لا يمكن فهم قمة شرم الشيخ دون التوقف عند الدور الأميركي الذي لم يكن مجرد راعٍ دبلوماسي، بل كان المهندس الفعلي لاتفاق “إنهاء الحرب” في غزة، والمُخرج السياسي لمشهد بدا فيه الفلسطينيون غائبين، والعدالة مغيّبة. لقد تصدّر الرئيس الأميركي دونالد ترمب واجهة الحدث، لا بوصفه وسيطاً نزيهاً، بل كطرفٍ منحاز بصورة مطلقة لإسرائيل، طرفٍ يده ملوثة بدماء آلاف الأطفال والنساء في غزة، ليس فقط بصمته عن المجازر، بل بدعمه العسكري والسياسي غير المشروط للآلة الحربية الإسرائيلية.
لم يأتِ ترمب إلى شرم الشيخ حاملاً مشروع سلام، بل جاء حاملاً خريطة خيالية لشرق أوسط جديد، يُراد فرضه بالقوة، عبر تسويات لا تعالج جذور الصراع، بل تلتف حولها. في خطابه، بدا وكأنه يتحدث عن واقع لا يراه سواه، واقع تُمحى فيه الذاكرة، وتُختزل فيه القضية الفلسطينية إلى أزمة إنسانية قابلة للإدارة، لا إلى نضال تحرري ضد استعمار طويل الأمد. لقد تجاهل تماماً الاحتلال، والاستيطان، والحصار، وتاريخاً من النكبات، وركّز بدلاً من ذلك على “تبادل الرهائن” و”وقف إطلاق النار”، وكأن الحرب كانت بين طرفين متكافئين، لا بين قوة نووية مدعومة دولياً وشعب محاصر أعزل.
الولايات المتحدة، في هذه القمة، لم تكن صانعة سلام، بل كانت صانعة مشهد، تُعيد فيه إنتاج الهيمنة تحت لافتة “الوساطة”. فهي التي سلّحت، وهي التي وفّرت الغطاء السياسي، وهي التي منعت أي مساءلة دولية لإسرائيل في المحافل الأممية. ثم جاءت لتُشرف على اتفاق يُفترض أنه ينهي الحرب، دون أن تعترف بمسؤوليتها المباشرة عن إشعالها أو تغذيتها. هذا ليس سلاماً، بل إعادة تدوير للدمار، وتجميلٌ للكارثة.
إن ما فعله ترمب في شرم الشيخ ليس جديداً، بل هو امتداد لدور أميركي طويل في إدارة الصراعات العالمية بمنطق الغلبة لا العدالة. من العراق إلى أفغانستان، ومن ليبيا إلى فلسطين، كانت واشنطن دائماً حاضرة كقوة تفرض رؤيتها، لا كقوة تُنصت. لكنها في الحالة الفلسطينية، تجاوزت حتى حدود التظاهر بالحياد، لتصبح شريكاً مباشراً في الجريمة، ثم شريكاً في صياغة “الحل”.
إن الدور الأميركي في قمة شرم الشيخ يُجسّد مأزق السياسة الدولية المعاصرة: حين يُمنح الجلاد سلطة كتابة رواية الضحية، وحين يُفرض السلام كصفقة، لا كحق، وحين تُدار العدالة كملف تفاوضي، لا كقيمة إنسانية غير قابلة للمساومة.
الزعماء العرب: الحضور بوصفه غياباً والغسل الرمزي للأيدي
في قمة شرم الشيخ، لم يكن حضور الزعماء العرب تعبيراً عن دعم نضال الشعب الفلسطيني، بل بدا وكأنه محاولة جماعية لغسل الأيدي من مسؤولية تاريخية وأخلاقية تجاه قضية كانت، ولا تزال، جوهر الصراع في المنطقة. لقد جلس بعضهم في الصفوف الأمامية، وألقى كلمات محمّلة بالأسف، وبعبارات منمّقة عن “القلق” و”الرغبة في التهدئة”، لكنهم لم يأتوا حاملين مشروعاً، ولا رؤية، ولا حتى موقفاً واضحاً يُعيد الاعتبار للحق الفلسطيني في الأرض والكرامة.
هذا الحضور العربي، الذي بدا كثيفاً عددياً، كان في جوهره غائباً سياسياً. فبدلاً من أن يكون منصة لتوحيد الموقف العربي حول دعم المقاومة، أو على الأقل المطالبة بوقف العدوان، تحوّل إلى مشهد بروتوكولي يُضفي شرعية على اتفاق صيغ خارج الإرادة الفلسطينية، وبعيداً عن أي مساءلة تاريخية. لقد بدا وكأن بعض الزعماء جاءوا ليقولوا: “لقد فعلنا ما بوسعنا”، بينما يعلم الجميع أن ما بوسعهم أكثر بكثير من بيانات الإدانة وتغريدات التضامن.
اللافت أن بعض هؤلاء الزعماء لم يكتفوا بالوقوف متفرجين، بل شاركوا فعلياً في هندسة الإقصاء، وفي تمرير خطاب يُفرّغ القضية من بعدها التحرري، ويُعيد تعريفها كأزمة إنسانية قابلة للإدارة. بل إن بعضهم، في مواقف سابقة، تواطأ مع الاحتلال، ونسّق أمنياً، وساهم في حصار غزة، ثم جاء إلى القمة ليُعلن أسفه، وكأن التاريخ لا يسجل، وكأن الدم لا يصرخ.
إن هذا الحضور العربي يُجسّد مأزقاً أخلاقياً عميقاً: حين يتحوّل الدعم إلى تمنٍّ، والموقف إلى مجاملة، والالتزام إلى حياد. لقد غابت الإرادة السياسية، وغابت الجرأة، وغابت حتى اللغة التي تُسمّي الأشياء بأسمائها. لم نسمع في القمة من يقول “الاحتلال”، أو “العدوان”، أو “الحق في المقاومة”، أو “الدولة الفلسطينية المستقلة”، بل سمعنا عن “التهدئة”، و”الاستقرار”، و”الحلول الوسط”، وكأن القضية الفلسطينية باتت عبئاً يجب التخلص منه، لا مسؤولية يجب حملها.
في الوقت الذي تُدار فيه القضايا الكبرى عبر تحالفات مصالح، يصبح الحضور العربي في قمة شرم الشيخ علامة على التحوّل من دعم القضية إلى إدارة غيابها، ومن تبنّي النضال إلى تبرير التراجع. لقد حضروا، نعم، لكنهم لم يُنصتوا للدم، ولم يُنادوا بالحق، ولم يُطالبوا بالعدالة. حضروا ليغسلوا أيديهم، لا ليحملوا القضية.
الرهائن مقابل الأسرى: حين تُقاس الإنسانية بميزان القوة
في قمة شرم الشيخ، تصدّر ملف “تبادل الرهائن” جدول الأعمال، وكأن عشرين جندياً إسرائيلياً لدى المقاومة الفلسطينية هم جوهر المأساة، بينما غاب تماماً عن النقاش وجود أكثر من عشرة آلاف أسير فلسطيني في سجون الاحتلال، بعضهم قضى أكثر من أربعة عقود خلف القضبان، والمئات منهم حُكم عليهم بالمؤبد، ليس مرة واحدة، بل مرات متعددة، وكأن الزمن نفسه حُكم عليهم أن يُسجنوه.
هذا الاختلال في المعايير الإنسانية ليس مجرد خلل في التوازن السياسي، بل هو فضيحة أخلاقية تُعرّي العالم الذي يصرخ من أجل جنود فقدوا حريتهم، بينما يصمت أمام شعب يُسجن بكامله، يُعذّب، يُحرم من أبسط حقوقه، ويُعامل كأرقام في ملفات أمنية لا تُفتح إلا عند الحاجة إلى صفقة. لقد انقلبت الدنيا على عشرين جندياً، بينما لم تهتز ضمائر القادة أمام آلاف الأمهات الفلسطينيات اللواتي ينتظرن أبناءهن منذ عقود، أمام أطفال كبروا دون أن يروا آباءهم، أمام قصص من الألم لا تُروى إلا في الزنازين.
إن تقديم ملف الرهائن الإسرائيليين بوصفه أولوية إنسانية، وتجاهل ملف الأسرى الفلسطينيين، يكشف عن منطق يُمنح فيه الإنسان قيمة سياسية فقط إذا كان من الطرف الأقوى، من الطرف المدعوم دولياً، من الطرف الذي تُحسب خسائره بالدولار والضغط الدبلوماسي، لا بالدم والوجع. هذا ليس إنصافًا، بل هو إعادة إنتاج للظلم تحت غطاء الإنسانية، وهو تزييف للعدالة يُحوّل الضحية إلى متهم، ويُعيد تعريف الألم ليصبح انتقائياً، يُعترف به فقط إذا كان من الطرف “المناسب”.
في سجون الاحتلال، لا يُحتجز فقط الرجال والنساء، بل تُحتجز الذاكرة، والهوية، والحق في الحياة. الأسرى الفلسطينيون ليسوا مجرد ملف تفاوضي، بل هم مرآة للواقع السياسي الذي يُقصي الإنسان إذا لم يكن مدعوماً، ويُهمّش قضيته إذا لم تكن مربحة.
إن تغييبهم عن قمة شرم الشيخ، وعن وثيقة “السلام”، وعن الخطاب الإعلامي، هو تغييب للعدالة، وللضمير، وللإنسانية التي لا تُقاس بالقوة، بل بالحق.
التحالفات الجديدة: الواقعية كقناع للتواطؤ
في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد التحولات الجيوسياسية في المنطقة، باتت بعض الدول العربية تتبنى خطاباً أقرب إلى الرواية الإسرائيلية، لا من باب القناعة، بل تحت ذريعة “الواقعية السياسية” و”مواجهة التهديدات المشتركة”. هذا التحول لم يكن مجرد تعديل في اللهجة الدبلوماسية، بل كان انقلاباً في البوصلة الأخلاقية، حيث تحوّلت القضية الفلسطينية من مركزية إلى هامشية، ومن معيار للكرامة إلى عبء يُدار بتكتيك المساومة.
في قمة شرم الشيخ، تجلّت هذه الواقعية المزعومة بأوضح صورها: دول عربية شاركت في توقيع وثيقة سلام لم يُستشر فيها الفلسطينيون، وباركت اتفاقاً لا يعترف بجذور الصراع، بل يُعيد إنتاجه تحت غطاء التهدئة. لقد باتت إسرائيل تُقدَّم في بعض الخطابات الرسمية كـ”شريك استراتيجي”، لا كقوة احتلال، وكأن عقوداً من القتل والتهجير والاستيطان يمكن أن تُمحى بلحظة سياسية تُبرّرها المصالح الأمنية أو الاقتصادية.
هذه الواقعية لا تعني سوى شيء واحد: التخلي عن المبادئ لصالح الحسابات. فبدلاً من أن تكون السياسة أداة لتحقيق العدالة، أصبحت وسيلة لتفادي الإحراج، ولتأمين التحالفات، ولتجنّب الاصطدام مع القوى الكبرى. لقد باتت بعض الأنظمة ترى في القضية الفلسطينية عائقاً أمام التطبيع، لا قضية تحرر تستحق الدعم، وبدأت تُعيد صياغة خطابها الداخلي لتُقنع شعوبها بأن “الاستقرار الإقليمي” أهم من “الحق التاريخي”.
لكن هذه “الواقعية” في جوهرها، ليست واقعية على الإطلاق. إنها إنكار للواقع، وتزييف للحقائق، وتواطؤ مع القوة على حساب الضحية. إنها محاولة لتجميل العلاقة مع الاحتلال، لا لإنهائها، ولتحويل الصراع إلى ملف إداري يُدار في غرف مغلقة، لا إلى قضية إنسانية تُحلّ بالاعتراف والعدالة.
إن مناصرة إسرائيل باسم الواقعية ليست سوى إعادة إنتاج للهيمنة، وتكريس لواقع سياسي يُقصي الفلسطينيين من المعادلة، ويُعيد تعريف “العدو” وفقاً لمصالح متغيرة، لا وفقاً لمبادئ ثابتة.
وفي هذا السياق، تصبح القمم والمؤتمرات مجرد واجهات، تُدار فيها التحالفات، وتُنسى فيها القضايا، ويُعاد فيها تشكيل الوعي العام ليقبل بما لا يُقبل، ويُبرّر ما لا يُبرّر.
قمة بلا ضمير وسلام بلا عدالة
قمة شرم الشيخ، بكل ما حملته من رمزية سياسية وتغطية إعلامية، لم تكن لحظة سلام حقيقية، بل كانت مشهداً مركّباً ـ على الطريقة الهوليودية ـ من التواطؤ، الإقصاء، وإعادة إنتاج الهيمنة. لقد اجتمع العالم ليصوغ وثيقة إنهاء حرب، دون أن يُنصت لصوت الضحية، ودون أن يعترف بجذور المأساة. فبينما كانت غزة تنزف، وبينما كانت الجثث تُنتشل من تحت الركام، كان الزعماء يتصافحون، ويوقّعون، ويبتسمون أمام الكاميرات، وكأن الدم الفلسطيني لا يستحق أن يُذكر إلا في الهامش.
لم تكن الولايات المتحدة، بقيادة ترمب وسيطاً، بل طرفاً فاعلاً في صناعة الحرب، ثم طرفاً متسلطاً في صياغة “السلام”. والزعماء العرب، الذين حضروا القمة، لم يأتوا حاملين إرثاً من التضامن، بل جاءوا وكأنهم يريدون غسل أيديهم من مسؤولية تاريخية تجاه قضية كانت يوماً ما معياراً للكرامة السياسية.
أما الإعلام، فقد تولّى مهمة التجميل، فحوّل القمة إلى احتفال، والاتفاق إلى إنجاز، متجاهلاً أن العدالة لا تُصاغ في غياب أصحابها، وأن السلام لا يُفرض بالقوة.
إن ما جرى في شرم الشيخ ليس مجرد حدث عابر، بل هو لحظة كاشفة عن انهيار المعايير، وعن تحوّل القضية الفلسطينية من نضال تحرري إلى ملف يُدار بين العواصم، ويُحسم دون استشارة أصحاب الأرض.
لقد تم تغييب الفلسطينيين، لا فقط عن طاولة القرار، بل عن سردية العالم، وعن لغة العدالة، وعن حقهم في أن يكونوا هم من يكتبون مصيرهم.
في هذه المرحلة التي تُدار فيها القضايا الكبرى عبر تحالفات المصالح، يصبح السؤال الأهم: هل يمكن للسلام أن يُولد من رحم الإقصاء؟ وهل يمكن للعدالة أن تُصاغ بأقلام من تلطخت أيديهم بالدم؟ إن قمة شرم الشيخ، بكل تناقضاتها، تُجبرنا على إعادة تعريف معنى السلام، لا بوصفه صفقة، بل بوصفه اعترافاً بالحق، وبالكرامة، وبالإنسانية التي لا تُشترى ولا تُوقّع بالنيابة.