عماد خالد رحمة يكتب :الأفواه الفاغرة واللا مجدية: الأقلية التي تكتب من عمق الصمت وتقاوم ابتلاع العالم

في زمنٍ صاخبٍ يزدحمُ بالضجيج أكثر مما يفيضُ بالمعنى، تنهضُ “الأفواه الفاغرة واللا مجدية” كرمزٍ للوعي المنكفئ، للإنسان الذي ابتلعته العولمة دون أن يعي أنّه صار جزءًا من جهازها الهائل في إعادة إنتاج التفاهة. تلك الفئة التي تحدّثت عنها سيمون دي بوفوار رمزاً للغثاء البشري، هي ذاتها التي حذّر منها هربرت ماركوزه حين قال إنّ “الإنسان في المجتمع ذي البعد الواحد” لم يعد قادراً على التفكير النقدي، بل اكتفى بأن يستهلك، يلهو، ويعيد اجترار ما يُقدَّم إليه من قوالب مسطّحة.
لكنّ المدهش، كما يرى الكاتب، أنّ هذه “الأقلية الواسعة الانتشار” ليست جموع الجماهير الضالة، بل هي القلة التي رفضت أن تفتح فمها لتبتلع كل ما يُقدَّم لها. إنهم الفنانون والمبدعون الحقيقيون، الذين ما زالوا يعزفون في الظلّ، يرسمون في عزلةٍ نبيلة، ويكتبون بلغاتٍ لا تُفهم في زمن تسوده الرموز الاستهلاكية. إنّهم الضمير المُعلّق بين الماضي والمستقبل، بين الفن كخلاصٍ روحي، والعالم كمسرحٍ للفقد والتسليع.
لقد تحوّل الإنسان الحديث، كما وصفه غي ديبور في مجتمع الاستعراض، إلى كائنٍ يرى ذاته من خلال الشاشة، ويعيش بالوساطة، لا بالوجود. وبهذا المعنى، أصبحت الأغلبية الصاخبة مجرد أفواه فاغرة تلتهم الصورة بدل الحقيقة، وتستعيض عن الفكرة بالترند، وعن المعنى بالتصفيق. أمّا الأقلية التي “نجت من كمائن العولمة”، فهي التي ما زالت تُنتج الجمال خارج السوق، وتُمارس التفكير كفعل مقاومة.
إنّ هذه الأقلية لا تحتاج إلى لافتاتٍ أو صراخٍ لتعلن وجودها، لأنها تعبّر بصمتها، كما عبّر نيتشه حين قال: “أولئك الذين يُدركون عمقهم، نادرًا ما يثرثرون”. فالكلمة عندهم ليست وسيلة للتأثير الجماهيري، بل شكلٌ من أشكال الوعي بالحرية. إنهم الذين يكتبون كما يتنفسون، لا كما يُملى عليهم، يبدعون لأنهم لا يستطيعون أن يعيشوا دون الإبداع، لا لأنّ السوق يطلب ذلك.
ولئن كان بيير بورديو يرى أن الهيمنة الثقافية لا تقل خطرًا عن الهيمنة الاقتصادية، فإنّ هؤلاء المبدعين الذين نُسوا في زوايا العالم هم من يقاومون هذه الهيمنة بالفعل الجمالي ذاته، بتحويل الفنّ إلى فعل تحرّرٍ رمزي، لا إلى سلعة تُستهلك. فكل لوحة تُرسم في عزلة، وكل قصيدة تُكتب بلا جمهور، وكل نغمةٍ تُعزف في صمت، هي تمرّدٌ على هذا العالم الذي أراد للإنسان أن يفقد صوته ليصبح جزءًا من جوقة كبرى تُصفّق بلا وعي.
لقد قال ألبير كامو في الإنسان المتمرد: “الفنّ هو الطريق الوحيد الذي يجعل الإنسان يقول لا دون أن يتوقف عن قول نعم للحياة”. وهكذا، فإنّ “أصحاب الأفواه الفاغرة واللا مجدية” الذين يتحدث عنهم النصّ ليسوا أولئك الذين يلوكون الكلام بلا معنى، بل الذين اختاروا الصمت المبدع على ضجيج العدم، ووهبوا الحياة معنىً في وجه التوحّش المادي.
إنّهم النبلاء المجهولون في زمن التسليع، الذين لم تنجح وسائل الإعلام في تدجينهم، ولا استطاعت الرأسمالية الثقافية أن تُحوّل أصواتهم إلى أداة تسويق. إنّهم من يملكون، كما قال غاستون باشلار، “القدرة على تحويل الخيال إلى مقاومة، والصمت إلى فكرة، والعزلة إلى كونٍ صغيرٍ من المعنى”.
وهكذا، فإنّ “الأفواه الفاغرة واللا مجدية” ليست مجرّد استعارة بلاغية، بل مجازٌ عن الفجوة الحضارية بين الإنسان المنتج للمعنى والإنسان المستهلك للفراغ. تلك الفئة القليلة التي ما زالت تقف على حافة العالم، تكتب، وتعزف، وتنحت، في محاولةٍ لاستعادة اللغة من براثن السوق، والفكر من أيدي الإعلام، والروح من رماد الحضارة.
في نهاية المطاف، تبقى تلك الأقلية المبدعة ضمير هذا الكوكب، تحرس بجمرة الفنّ ما تبقّى من المعنى في زمنٍ تتكاثر فيه الأفواه، وتندر فيه الأصوات. فهم “اللامجديون” في نظر السوق، لكنّهم في نظر التاريخ الوحيدون الذين جعلوا للحياة جدوى.