رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :جمهوريات وممالك الأسرى

ـــــــــــــــ ما أكثر الأوطان التي يبدأ فيها سجن المواطنين بالنشيد الوطني* أدونيس.
” لقد بقرت لك بطن باريس”هذا ما قاله البارون المهندس هاوسمان للامبراطور نابليون الثالث الذي طلب منه تحويل الجانب المتمرد من باريس
خلال إنتفاضة” كومونة باريس 1871″ الى معتقل وثكنة عن طريق هندسة خفية بحيث حوّل الشوارع والحدائق ومراكز التسوق الى سجن كبير يمكن اغلاقه في أي وقت من دون علم السكان.
أغرب أنواع الأسرى في العالم وفي التاريخ هم الأسرى العرب، أسرى نظم دولية ونظم محلية، لأن من حق الأسير العربي أن يتنفس وأن يشخر وأن يمخط وأن يتجول في مدن مصممة كثكنات من الداخل ومؤسسات أمنية ومن خارجها مطارات عسكرية ومعسكرات جيش تغلق في أي وقت.
الأسير العربي يحق له السفر الى أي مكان في العالم واكتشاف جزر وأمكنة لكنه محروم من اكتشاف من هو والتعرف على نفسه، ويحق له تقرير مصير أي نملة وأي جرادة وأي خنفساء بإستثناء تقرير مصيره. عندما يفقد الانسان مصيره يموت حتى العقرب لو حاصرتها النيران تلدغ نفسها ، وأي طائر عالق في فخ يحاول تمزيق الشباك وأي فأر محاصر في قفص يقضي الوقت في الركض بحثاً عن ثقب.
لكن العربي أوقعوه في وهم انه حر ما دام قادراً على قضاء الحاجة وعلى التعرق وعلى التبرز وعلى الكوابيس وفتح باب الحظيرة في الصباح والذهاب الى المرعى والعودة في المساء مرهقا لكي يأكل وينزو وينام بلا جسد ولا أحلام حقيقية.
حتى أن الاسير العربي لم يعد يريد الغاء معسكرات الاعتقال الأكثر دهاءً في العالم بل صار يريد أن تتغير أخلاق حراس الأسر وقواعده كالحق في شر ملابسه المغسولة على الأسلاك وعلى ساعات مشي وأن يرسم على جدران الزنزانة ما يحلم به من شمس وحقول وبراري.
صار يطالب في الحق في التعبير في حين هو عاجز عضوياً وبنيوياً عن القدرة على التفكير غير نظام الاجترار والتكرار والتلقين بعد افراغ شخصيته من كل عناصر الحياة من الطفولة .
حتى لو تمرد في الشوارع، تخلى عن شعار اسقاط النظام أو الغاء السجن بل صار الشعار تحسين ظروف السجن وتبديل السجانين الفاسدين والحفاظ على النظام المنتج لكل أنواع الفساد.
الأسير العربي الوحيد في العالم الذي يذهب للانتخابات حراً في الظاهر ويحق له انتخاب من يشاء لكن صوته سيصادر في تسويات وصفقات ومناورات وفي حواسيب متخصصة.
نحن ايضا العرب الطلقاء في الشكل نحتاج الى صفقة تبادل أسرى
مع الغرب والولايات المتحدة ومع النظم العربية لان العربي لا يعيش في حياة بل في نظام الغيتو ـــ العزل ، الحصار.
حصار من نظم الحكم وحصار تلك القوى الكبرى التي جعلتنا نستورد القمح والغاز والبصل ومن الغريب حتى تمرنا يعاد لنا معلباً.
مع كل هذه الحصارات، العربي محاصر من داخل ذاته، بعد ان تسللت بالقوة والخوف والترغيب والخداع والسنوات تلك القوى الى داخله وصار يشبه ثكنة او قاعدة عسكرية او زنزانة متجولة. لم يعد بحاجة الى سجن وسجان لانه هو من يتولى الدور بلا إكراه لأنه مبرمج على ذلك ويعرف حدود الممكن وغير الممكن والمسموح وغير المسموح ولا يتجاوز الأسلاك الشائكة. حتى هذه الرذيلة شجعوه عليها على انها صبر وصلابة وقوة وايمان بالقدر.
هل يمكن تسمية هذا القرف بالحياة لمواطن في قلق واضطراب واسئلة لا نهاية لها من الصباح حتى المساء ودورة تعذيب مكررة دون اي ذنب؟
لم يعد عندنا ما نملكه لا النفط ولا الارض ولا الحاضر ولا المستقبل. سرقوه علنا تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الانسان والنظم الدكتاتورية والبدائية المتخلفة التي أسسوها ودعموها حتى اليوم وعندما لم تعد” منضبطة” و” مطيعة” أسقطوها، لكن أسقطونا معها ودمروا الدولة والمجتمع،
والدولة ليست السلطة لانها مؤسسة خدمات محايدة ثابتة، ماء، كهرباء، تعليم، صحة، بنى تحتية الخ، في حين السلطة مؤسسة سياسية متغيرة.
يُصدم العراقي مثلا من المجازر في مدن عربية اخرى ، أي انه لا يراها إلا على الشاشة مع انه عاشها قبل غيره، وعاش الحصار 13 سنة ـــ وهو مستمر بصورة منقحة ــــ حتى باع أثاث منزله واطار سيارته وطابوق منزله لكي يعيش ، فقط أن يعيش لا أن يحيا، لأن كل الكائنات تعيش. في اللغة العيش غير الحياة.
نحن في حصار وعزل وغيتو ونظام أبارتايد، وفصل عنصري، وأسرى بأسلاك شائكة من الداخل والخارج ومن الذات أيضاً بقيود غير مرئية لكنها صارمة. أبعد من ذلك خلقوا لنا قاموساً مشوها لكي نفكر به ونؤسس به دستورنا وقوانينا وحالتنا النفسية .
الاحتلال اللغوي لا يقل خطراً عن احتلال الأرض، بل لا يمكن احتلال الارض بلا خطاب ولغة وقاموس للتبرير،
وكعادة الولايات المتحدة عند احتلال بلد ما، تلجأ الى” اختراع” قاموس خاص بها وتقطره على مراحل، ومع قاموس لغوي تشرع له “مؤسسات وقوانين”،
ويصبح العراقي مثلاً لا يفكر عندما يعتقد أنه يفكر، بل يفكر من خلال مفاهيم أمريكية جاهزة.
خلال سنوات الاحتلال نزلت لسوق التداول مفاهيم منتقاة تم تنزيلها بهدوء وصمت بالقطارة على مراحل : هذه العبارات الجاهزة المنتقاة صارت جزءاً جوهرياً من الثقافة واللغة السياسية اليومية،
ومن الحوار السياسي بين الساسة وعامة الناس وبين الانسان مع نفسه مثل:
محاصصة ـــ توازن قوى ـــ قانون ـــ تشريع ـــ لعبة سياسية،
مرحلة عبور ـــ العملية السياسية ـــ الكتلة الاكبر ـــ فصائل موالية، إنتخابات، فصائل تابعة، قواعد عسكرية للحماية من الارهاب، ذيول… الخ.
في حالات قتل عوائل يتم تبرير ذلك بقاموس: تقاطع رصاص ـــ نيران صديقة ـــ معلومات خاطئة، تصبح جريمة مسح عوائل سوء تقدير وخلقوا صحفا ومقدمي برامج مهرجين حمقى صاروا اثرياء ببيع الاوهام للناس بل صاروا نجوما وهم يعانون من امية ثقافية شنيعة.
لذلك صار المواطن عندما يفكر لا يفكر بلغة خارج القاموس الأمريكي كما يتوهم، بل يبحث عن حل من خلال لغة جاهزة سلفاً، اي من خلال شبكة مفاهيم جاهزة لا تنتج حلاً من خارجها، ومن خلق المشكلة لا يمكن ان يكون حلاً،
وقاموس جاهز سلفاً لكي لا يتم الخروج منه على “قواعد اللعبة مهما حاول التفكير لان لغته مبرمجة بمفاهيم جاهزة ومؤسسات:
هذا القاموس أشبه بلوائح سجناء لا يغيرون قواعد السجن بل في الأقل جعل الزنزانة أفضل.
نحن أشبه ما نكون أمام لعبة اطفال للسيارات الالكترونية أمام شاشات،
يشعر الطفل بحرية زائفة في العمل والاثارة واحتراق أو انقلاب السيارة أو الفوز لكنه ينسى أن كل شيء مبرمج.
التابع لا يفكر ، بل يكرر ويجتر، ولا يرى الحبال الطويلة حول رقبته لكي يشعر بوهم حرية زائفة، التابع هو الهامشي والمنزوي والمقصي من علاقات السلطة والقوة والحرية والاختيار وصناعة المصير لكن هذا المهمش أو التابع Subaltern – postcolonialism هل يستطيع أن يفكر ؟
بالطبع يفكر لكن ما يفكر به هو الأهم والمشكلة ليست في التفكير بل في محتوى التفكير، وما جدوى التفكير بعد ان سُلب منك الحق في تقرير المصير في واقع غير عادل و غير آمن و غير مستقر؟
لغة ” ما بعد الكولونيالية” لغة هيمنة وتتداخل مع اللغة المحلية وتلوح كتراث قديم ولغة قديمة وهذا أخطر الأوهام وخصوصا عندما تتداخل مع الثقافة والأدب والفولكلور والفنون واللغة السياسية اليومية كما هو حاصل اليوم في أي حوار سياسي وفي أي حوار عن حل.
بعد رحيل الاستعمار البريطاني عن الهند ترك خلفه ثقافة تداخلت مع الثقافة المحلية أو ما يعرف بـــــ ” التهجين” أي تزاوج ثقافة من أخرى خارجها للسيطرة،
وصار الهندي يفكر بعقلية المستعمِر دون وعي منه،
وخاصة بعد تلقيح البوذية والسيخية والهندوسية بالمسيحية خلال الاستعمار البريطاني بمبادرة من جنرال الحملة البريطانية لتفتيت الهوية،
ولم يعد يعرف الهندي هل هو بوذي او سيخي ام مسيحي ودخل في قلق الهوية؟
لأن “ثبات” الهوية يتعارض مع مشروع ” الاقتلاع” وهو ما حدث في العراق
بتخريب تراثه وسجلاته والتشكيك بكل ثوابته حتى الارض والهوية والتاريخ والخ.
تسللت اللغة ما بعد الكولونيالية الى الادب الروائي كالهندي سلمان رشدي والروائي العنصري السيخي ف.س. نايبول حامل نوبل، وفي العراق سلالة طويلة اليوم متنكرة ببراقع الوطنية الفائضة وخطاب سردي عن ظلم الاقليات ـــــــــــــــ وهو ما يعجب الغرب ولجان الجوائز كشرط خفي للفوز يعرفه المحترفون ـــــــــــــ كما لو ان العربي يعيش في فردوس.
مفاهيم مثل التوافق والمشاركة السياسية حسب الفهم الامريكي والمحاصصة والبرلمان ونسبة الحضور ومفهوم الأغلبية والمصالحة الوطنية والارهاب والاعتدال والسيادة والأمن والاستقلال والانسحاب والقانون والدستور واللامركزية والقوميات والانتخابات والاستحقاق الجماهيري ونجاح العملية ومفاهيم الانهيار الأمني العام او الجزئي وتوزيع الصلاحيات ـ لغرض تشتيت السلطة على قوى للتحكم بها ــــ وخلق مراكز قوى للعب على الجميع ـ وفشل أو نجاح العملية السياسية وحلول وسطية وتنازلات وانتكاسات وعرقية وأثنية ومرحلة عبور ومنعطف سياسي وتحول حرج ودولة شراكة ومأزق سياسي وحكومة وحدة وطنية وعقلية مذهبية وقتل الناس في البيوت والشوارع على انه خطأ عسكري أو نيران صديقة أو تقاطع نيران ولعبة سياسية وتوازنات وديمقراطية فتية والعراق يحتاج الى وقت لعبور مرحلة الدكتاتورية ومخلفات الماضي الشماعة المزمنة ونجاح أمني والخ وهلم جرا،
كل هذه المفاهيم وغيرها الكثير ما يشكل القاموس الامريكي الذي نتكلم به ونفكر من خلاله، أي ان من حقك أن ترسم ما تشاء على الزنزانة من طيور وحقول وشمس لكن ليس من حقك الغاء القضبان،
وهذا هو الاعتقال الذاتي.
الببغاء في قفص لا يختلف من حيث الفاعلية عن انسان تابع وكلاهما في حالة سلب الارادة والمصير والاختيار.
لكن هل يفكر التابع؟
التابع لقوى او لجماعات أو منظومة جاهزة أو قاموس استعماري تسلل الى اللغة المحلية بالتقطير أو حتى التابع لفرد لا يفكر كما يريد،
التابع بلا هوية لأنه أسير مفاهيم وقناعات من خارجه ولا من تفكيره ومن سلط أقوى منه وهو في وضع الإستلاب والمستلب مشغول بالنجاة لا بالتفكير بالمصير ، كطريدة لا تريد الحرية بل تريد البقاء حية، وحتى تنازلت حشود عن الحرية وتريد الغفران . لا تريد الخروج من الأسر بل شهادة حسن سلوك من الآسرين والسجانين الكبار خارج حدود السجن الكبير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى