عماد خالد رحمة يكتب :الخرافة والعقل: نحو استعادة الضوء في زمن الظلام الاجتماعي:

في كل عصر يتراجع فيه النقد والفكر المستقل، تنبت الخرافة كالحشائش في أرض هجرتها الشمس، لتغطي حقول الوعي وتخنق الفضول. إن غياب العقل النقدي لا يولّد مجرد تضارب أفكار، بل يفتح المجال لتسلّل الخزعبلات إلى نسيج المجتمع في هيئة إيمان زائف، فيصبح الجهل دينًا يُتلى والخرافة مذهبًا يُورّث، والجنون طقسًا جماعيًا تُقام له الاحتفالات والأضرحة. كما لاحظ مفكرون كبار مثل ميشيل فوكو، فإن السلطة والمعرفة متلازمان: حيث يُقمع السؤال، تتسيد الوصاية على الحقيقة، وتصبح الطقوس والرموز أدوات لإعادة إنتاج الهيمنة الاجتماعية.
مدننا، التي كانت تعرف بكرم أهلها ودفء قلوبهم، تحولت إلى ساحات تُباع فيها الأوهام كالبضائع، وتقدس الخرافة باسم الدين، ويمنح الجهل صك البركة تحت عباءة الأولياء، فتغدو الطقوس وسيلة للهروب من مواجهة الواقع، والزيارة إلى الأضرحة نوعًا من التخلي عن المسؤولية الوجودية للإنسان تجاه ذاته ومصيره. إن الخرافة هنا ليست مجرد فكرة باطلة، بل نظام اجتماعي متكامل يُدار بعناية، يرضي العاجزين عن الفهم ويُسكن قلق الوجود، ويمنح شعورًا زائفًا باليقين في عالم مضطرب ومجهول.
والخطر الأعظم أن الاستسلام للخرافة يصبح جزءًا من الهوية الاجتماعية، فلا يُنظر إلى الجهل على أنه عيب، بل يتحول إلى فضيلة مقدسة، يدافع عنها الناس كما يدافعون عن إيمانهم. فالجهل الذي يغذيه الخوف من السؤال، ويعيش على كسل الفكر، ويخدر الوعي باسم الدين والروحانية، يتحول إلى سجن روحي لا يُكسر بسهولة، كما أشار نيتشه في نقده للأخلاق السائدة والدين باعتباره قوة تُقمع الإرادة الحرة.
الإنسان الذي يسلم مصيره إلى الحجر، إلى الأضرحة، لا يفكر يومًا في بناء صرح من الفكر. وهكذا، يُستبدل بالقوة الداخلية للإنسان بركة خارجية، ويُختزل الإيمان في حركة الجسد، لا في يقظة العقل. إن مقاومة هذه الظواهر لا تتم بالوعظ أو المنع، بل بالتعليم والفكر الحر والفلسفة والفن، وبحرية السؤال، إذ أن أول خطوة لمقاومة ما يسميه بعض المفكرين “الجهل المقدس” هي إعادة الاعتبار للعقل، والشجاعة في مواجهة السائد، ورفض التسليم الأعمى لما يقال.
التنوير، كما أكدت فلسفة كانت وهيغل وفلاسفة العقل الأوروبي، ليس حربًا على الدين، بل حماية له من أن يُستغل وقودًا للجهل، فهو الدفاع الأخير عن إنسانية الإنسان، وعن قدرته على أن يرى بعينيه لا بعين الجماعة. حين يولد التنوير في العقول، تموت الخرافة، وتعود القدرة على التمييز بين الدين والأسطورة، بين القداسة والوهم، فتتحرر المجتمعات من استبداد الطقوس وجمود الرموز.
في المجتمعات التي تُقصى فيها التفكير لصالح الطقوس، يصبح كل صوت للعقل خطيئة، وكل سؤال تهديدًا للنظام القائم. لكن الفلسفة تعلمنا أن الحقيقة لا تخاف السؤال، وأن النور لا يختبئ عن العيون المفتوحة. آن للعقل العربي أن يخرج من دائرة القداسة الزائفة، أن يتحرر من عبادة الرموز والأضرحة، وأن يفهم أن الكرامة الحقيقية ليست خارقة للطبيعة، بل نابعة من الوعي ذاته. فالإنسان الذي يعبد القبور ميت في داخله، أما الذي يعبد النور فهو الذي يخلق الحياة من جديد
إن الخرافة تُهزم بالتعليم، وبالفكر، وبالفن، وبالحرية، وحين تتعلم الأجيال أن تقدس السؤال لا الصمت، نبدأ بالانطلاق من ظلمة الجهل المقدس نحو شمس التنوير التي لا تغيب. آن لنا أن نعيد إحياء العقل، أن نسأل، ونفكر، ونشك، ونعلم أن السؤال ليس كفرًا بل ضرورة، وأن الطريق إلى الحقيقة لا يمهد بالخرافة بل بالعقل المستنير والفكر الواعي.
وأخيرًا، الأوطان لا تنهض بالأضرحة، بل بالمختبرات والعلم، ولا تُبنى بالكرامات، بل بالأفكار البنّاءة، فتصبح الحضارة فعلًا مستمرًا للفكر والوعي، لا مجرد طقوس وطقوسة تتوارثها الأجيال في غفلة من الوعي.