حمزه الحسن يكتب :تحريف الذات والواقع

الحقيقة ليست دائماً ما نراه ، بل ما ندركه بعمق ، حتى وإن كان الواقع مغايراً * ألبرت آينشتاين.
الخطأ الفادح الذي وقعت فيه البشرية هو الايمان باللغة ، يقول نيتشه، أي الايمان ان اللغة هي الواقع ، وفي عالم السياسة تكون المسافة هائلة بين الواقع وبين اللغة لأن لغة السياسة مصممة على الكذب. السياسة تحرف الواقع وتحرف الحقائق.
العرب يحللون الواقع بلغة شاعرية أو لغة سياسية منذ قرون وحتى اليوم كما لو أننا في زمن صحراوي ولم تدخل مدارس التفكير والعلوم. السبب لأن لغة الشعر والسياسة هي الأسهل والأبسط ولا تحتاج الى بحث وشك لذلك نعتقد اننا نصطاد الواقع بالكلمات كالسحرة.
يتوارى الواقع ليس عن منتقديه فحسب، بل حتى عن الذين يدافعون عنه بتعبير جان بودريار، فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي في ” إطروحة موت الواقع” لأن الواقع كائن حي يشغله البشر والمكان والزمان.
الايمان بقدرة اللغة السحرية على تحليل الواقع وإهمال أدوات العلم والمعرفة الأخرى كما هو سائد في الثقافة السياسية اليوم، هو وهم الساحر والمشعوذ والدجال وكاتب” الرقية” التي تعلق حول الرقبة وتصنع الواقع.
يعتقد البعض انطلاقا من هذا الوهم السحري أن أحداً في العالم لا يعرف ماذا يدور في العراق غيره هو، مع انه الوحيد الذي لا يعرف الحقائق الاساسية السرية ولا جذورها في التاريخ التي لا تظهر على سطح الواقع،
ويعتقد أن ما يراه من حافلات وبقاليات ومقرات أحزاب وأسعار فواكه ومواكب وشعارات وحفلات هو كل الواقع السياسي
مع ان الواقع الحقيقي هو المخفي في السراديب والأقبية والمكاتب
وهذا المسكين يرى سطح الواقع المزيف، يرى الواقع الفرجة.
الحقائق عامة وحقائق السياسة خاصة ليست معروضة في الشوارع بل تحتاج الى اكتشاف وبحث وجمع روابط خفية لذلك تأسست المخابرات والجامعات ومراكز الابحاث والخ لرصد الواقع المخفي.
كل الحقائق اكتشاف واختراع وليست لقية طريق. هذا الانسان الذي تربى على الشعارات والجدران والكتل، لا يعرف أنه تحول الى فرجة للعالم،
وهو يؤمن انه لغز خفي في زقاق وشارع وحي،
وان الواقع والحقائق هي ما يحيط به هو وان معاييره هي المعيار الوحيد في الارض،
ولا يعرف انه صار مادة تشريح في مراكز أبحاث وجامعات ومدارس وربات بيوت وهو الوحيد الذي لا يعرف ما يدور ويخطط له،
وان كتاباً في الغرب توقعوا نهب وسرقة العراق قبل الاحتلال وبعده،
ووضعوا كتباً مثل كارلوس فوينتيس الروائي المكسيكي وغيره الكثير،
يوم كانت شرائح واسعة من النخبة مغرمة بمشروع التحرير،
حتى أن أحدهم كتب ثلاثين حلقة بعنوان:
” الضحك في زمن التحرير” في المنفى وبشرنا بعراق فردوسي بعد الاحتلال.
هذا المواطن ــــــــــــــ الذي يعرف كل شيء ، عن أي شيء ــــــــــــ لا يعرف أن عشرات الأقمار الصناعية مسلطة عليه،
وأن ملياري ونصف رسالة وصورة وملف ومكالمة تتم السيطرة
عليها في العراق من مركز تجسسي أمريكي خاص كل شهر وتخضع للتصفية،
ومن لا يصدق عليه قراءة كتاب أدوارد سنودن:
” لا مكان للإختباء” لضابط المخابرات الامريكي الهارب منذ سنوات في روسيا مع ملفات دامغة وصدر بحقه حكم الاعدام غيابياً.
أنت لا تستطيع أن تتأوه في غرفة نومك ولا تتغوط في حمام،
ولا تتعرى في غرفة مغلقة ومعك حاسوب أو هاتف، دون أن تكون مرصوداً بالصوت والصورة حتى لو كان الهاتف مغلقاً ويتم تفعيله عن بعد،
واذا كنت لا تستخدم هواتف حديثة فيتم ارسال طائر الكتروني يغرد لك فوق أقرب شجرة وهو نسخة مصنعة من طائر حقيقي، ويرسل بالصوت والصورة كل ما يتعلق بك،
واذا تطلب الأمر إدخال حشرة الكترونية بحجم بعوضة مزودة بأجهزة حساسة للتصوير وإبرة سامة تلدغك وانت غارق في الاحلام الرومانسية ويعثرون عليك ميتاً في الصباح قضاءً وقدراً وليس بقرار مخابراتي.
لم يعد أهل مكة أدرى بشعابها، مكة اليوم ليست واحة منسية في صحراء بل أهلها لا يعرفون أسرارها الخفية الكبيرة، وعلى هذا الصنف الكف عن الخفة العقلية وشعارها السخيف: ” نحن في العراق ونعرف كل شيء”.
من الغريب ان الروائي ارنست همنغواي كتب قصة قصيرة ساخرة عن هذا الصنف الاحمق الذي يدعي معرفة كل شيء في عالم معقد ومركب بعنوان:
” هو يعرف كل شيء”. حتى لو تحدثت معه عن أعماق الكون والبحار، سيقول:” هذه نعرفها”.
نحن في عالم رقابي صارم ولسنا في زمن الخيل والليل والقرطاس والقلم يعرفنا. اللغة ليست الواقع بل محاولة اقتراب منه. هناك أدوات معرفية وعلمية لدراسة الواقع غير اللغة التي صارت وسيلة وحيدة للبحث كوسيلة السحرة والمشعوذين.
العالم اليوم ليس الشارع الذي تعيش فيه، واذا كنت ترى مواكب جنازات لانفجار ارهابي، مثلاً، فغيرك في مكان ما في العالم يرى قبلك عبر شاشات كيفية اعداد الارهابي القنبلة وطقوس وداعه وركوبه السيارة المفخخة،
ولحظة التفجير وكذلك مراسم العزاء.
كعبقري ترى الواقع امامك لكن كيف ترى حوادث التاريخ التي صنعت الحاضر وكيف ترى جلسات مافيات النفط والغاز والمعادن، وكيف ترى اللجان السرية خلال الانتخابات،
وانت مسرور لانك ترى الاسكافي والفران والحمام والبقالية أمامك وتصدق ان هذا هو الواقع؟
لكن بتعبير برنارد شو” سامحه لأنه يعتقد إن حدود القرية هي حدود الطبيعة”.
هذه العقلية المشهدية السطحية المتغطرسة اشاعتها الاحزاب بدل تفكيك وتحليل الظواهر وجذورها العميقة.
بكل ثقة عمياء كتب يوماً قارئ على هذه الصفحة يقول :
” أنا صاحب بقالية وأرى الواقع أمامي”،
في نوع من الغمز على انه وحده يرى الواقع وحقيقة هو لا يرى شيئاً غير سطح الواقع ولو كان الامر فتح بقالية فما حاجة الشعوب الى جامعات ومراكز ابحاث وعلوم ونظريات بحث ومختبرات؟ هذا النوع من الجهل أخطر من الشر الذي يمكن مواجهته. كيف تفسر لهذا الصنف ان الواقع ليس ما تراه بل ما لا تراه وهو المختفي. الواقع كائن حي يولد ويموت وهو ليس نفسه دائماً كما انه ليس المرئي .
الواقع الفيزيائي الذي نراه ليس هو في الحقيقة لأن خلف الواقع المرئي عالم غاطس في السرية من قوانين الجاذبية والكهرباء والجسيمات المجهرية كما في كتاب” الواقع ليس كما نراه” لعالم الفيزياء كارلو روفيلي الذي غير طريقة الرؤية للكون.
اذا كان الواقع المادي أمامنا ليس هو في الحقيقة لأن خلفه قوانين الفيزياء، فكيف يمكن القبض على الواقع السياسي باللغة والكلمات؟ وهو واقع مراوغ ومزيف ويظهر عكس حقيقته؟
اليوم لا مكان للإختباء وقد تكون انت من يرى جانباً من الصورة
لكن واقع اليوم المركب المعقد بألف صورة وبعضها غاطس في التاريخ البعيد والقريب وفي العقل السياسي وفي مصالح دول وجيوش
ومخابرات وشركات ومافيات تحت الارض وثقافات وعادات وتقاليد وأساطير،
فكيف رأيت كل ذلك من بقالية أو من نافذة أو من حافلة؟
كيف يرى تفاعل الاساطير وحكايات التاريخ مع السياسة؟ وكيف ربط بينهما؟ كيف ربط بين النفط والضريح والحلفاء والسلاح والنظام والمصارف؟
العراق صار فرجة للعالم وهناك من يعتقد ان أحداً لا يعرف أسراره غيره.
اكتشف كبار ضباط الجيش العراقي أن أزرار البدلات الخاصة بالاحتفالات
وتكون أزراراً كبيرة تتضمن أجهزة تعقب،
كما أن العجلات والدبابات والهامرات زرعت فيها أجهزة تعقب، ومن النادر أن توجد غابة أو جبل أو شارع رئيسي،
أو أماكن نزاع أو تواجد مسلح من غير أجهزة تلصص على شكل صخور من جنس صخور المنطقة أو أشجار زرعت فيها عدسات حساسة،
ولا يمكن لطابور مسلح أن يعبر من مكان الى آخر من دون أجهزة تعقب وتصوير فورية.
إن الحقيقة ليست ما تراه بل ما تريد سلطة ما أن تراه، وفي عالم ما بعد أورويل الرقابي ، نسبة لجورج أورويل، إن الواقع اليوم ليس هو الحقيقة،
بل الأهم هو الاعلان والصورة والواقع الافتراضي.
في مجتمع الفرجة أو مجتمع الاستعراض والاشهار والدعاية يصبح قول الحقيقة نوعاً من الزور، ويصبح الزور حقيقةً.
كل المشكلة ليست في رؤية الواقع، الكل يراه، بل في كيفية فهمه وكشف روابطه الخفية وتشابكه مع دول ومصالح ومصارف ومافيات وقبائل وأعراق وعقائد ونفط وعقارات وسلاح ومع تاريخ عريق في الظلم.







