د. فيروز الولي تكتب:فوق الفئة: سردية الهاشمية اليمنية وكوميديا التراتب الاجتماعي

المقدمة: بين الفئة والنسب… اليمن بلد لا يساوي فيه المواطن المواطن إلا باللقب!
في اليمن، لا تحتاج إلى ثروة لتكون “من الصف الأول”، يكفي أن يكون لقبك منسوبًا إلى السلالة الصحيحة، أو على الأقل أن تحفظ سطرين من نسبك إلى جدٍ لا يعرفك ولا تعرفه.
هنا، تُصنع الهالة الاجتماعية على المقاس: الهاشمي في الصدارة، القاضي في المنبر، الشيخ في الميدان، والبقية في الطوابير!
بلدٌ لم يعرف “الطبقات الاجتماعية” كما في أوروبا، لكنه أتقن صناعة “الفئات” كما تُصنع الحلويات في الأعراس: لكل فئة لون، ولكل لون مقام، ولكل مقامٍ منافع وامتيازات ومظلومية جاهزة للاستعمال!
فمن فئةٍ تدّعي أنها خُلقت للحكم، إلى فئةٍ أُجبرت على الطاعة، ظلّ اليمني عالقًا بين “نسبٍ مقدّس” و”لقمةٍ ملوّثة بالسياسة”، حتى غدا الوطن أشبه بمدرج قبليٍّ طويل، يتنافس فيه الجميع على من يجلس في الصف الأول ولو على ركام الدولة.
من أين جاءت فئة الهاشميين؟
“الهاشميون” في اليمن هم من ذرّية بني هاشم، أي من “أهل بيت النبي” حسب التعريف الديني والتاريخي.
وقد شكلت هذه الفئة عبر قرون نخبة سياسية ودينية، إذ اشترطت “الإمامة الزيدية” في شمال اليمن أن يكون الإمام من البطن الهاشمي، ما جعل النسب وسيلة للحكم لا مجرد شرفٍ اجتماعي.
(المصدر: ecoi.net – تقرير عن التركيبة الاجتماعية في اليمن)
لكن مع سقوط الإمامة عام 1962، تغيّرت المعادلة. دخلت الهاشمية مرحلة جديدة من الوجود: من حقٍّ مقدّس إلى موقعٍ مثير للجدل، ومن سلالةٍ تحكم إلى جماعةٍ تُتهم بأنها تريد استعادة الماضي بثوبٍ جديد.
لماذا يُنظر إليهم كفئة “أولى”؟
ترتيب الفئات في الوعي الاجتماعي اليمني ليس وليد الصدفة، بل نتاج قرون من التقاليد:
1. الهاشميون — الفئة الأولى: النسب، الدين، والمكانة الرمزية.
2. القضاة والعلماء — الفئة الثانية: امتداد فكري ووظيفي.
3. القبائل والمشايخ — الفئة الثالثة: القوة الميدانية والرمزية القبلية.
4. الحرفيون والمزارعون — الفئة الرابعة: القاعدة الشعبية.
ليست هذه طبقات اقتصادية كما في الغرب، بل تراتبيات ثقافية ومعنوية تقوم على الدور والموروث لا على الدخل أو التعليم.
وقد أوضح تقرير ACAPS 2020 أن أكثر من 70٪ من اليمنيين يعرفون أنفسهم بالانتماء القبلي أو الفئوي لا الطبقي، وأن “الفوارق المادية ظلت محدودة نسبيًا بسبب الفقر العام وطبيعة الجغرافيا القاسية.”
(ACAPS, Thematic Report: Tribes in Yemen, 2020)
السخرية اللاذعة: حين يتحول النسب إلى وظيفة
المفارقة المضحكة المبكية أن “الفئة الأولى” لم تعد دائمًا الأعلم أو الأكفأ، بل أصبحت أحيانًا الأكثر ضجيجًا.
يفاخر البعض بأن نسبه يفتح الأبواب، بينما يفتحها في الحقيقة بـ”الواسطة”.
يتحدث آخرون عن الحق الإلهي في القيادة، بينما يديرهم تاجر سلاح أو ضابط في صنعاء.
والأجمل أن الحوثي اليوم – وهو الامتداد الأوضح للهاشمية السياسية – يعتمد في صفوفه على مقاتلين من الشوافع والسُنّة أكثر من الهاشميين أنفسهم!
وهكذا، تحوّل النسب من “ميزة روحية” إلى بطاقة عضوية سياسية، ومن “شرفٍ عائلي” إلى علامة تجارية في سوق النفوذ.
(المصدر: Carnegie Endowment – Yemen’s Houthis Use Multiple Identities, 2019)
لماذا لا توجد طبقات اجتماعية في اليمن؟
الجواب بسيط ومؤلم في آنٍ واحد:
لأن الجميع كانوا فقراء!
لم تعرف اليمن في أغلب فتراتها غِنى فاحشًا أو فقرًا مدقعًا على نطاق واسع، فالبلاد بجبالها الوعرة وتضاريسها المعقدة جعلت المعيشة متقاربة إلى حدٍ كبير.
لكن الحروب الحديثة، وتدفّق الأموال الخارجية، والانقسامات السياسية، أعادت رسم المشهد، فظهرت اليوم طبقة “الأثرياء الجدد” مقابل أغلبية مسحوقة.
ومع ذلك، تبقى “الفئات” لا “الطبقات” هي المقياس الاجتماعي الحقيقي:
القبيلة قبل البنك، واللقب قبل الراتب، والنسب قبل الكفاءة.
عبث الهوية والزعامة
في اليمن اليوم، لا أحد يعرف إن كان يُحكم باسم الدين، أم القبيلة، أم الثورة، أم النسب.
الجميع يتحدث عن المظلومية، والجميع يقتات منها:
الهاشمي مظلوم لأن الجمهورية ألغت “حقه التاريخي”.
القبلي مظلوم لأن السلطة سرقت “جاهه”.
والمواطن البسيط مظلوم لأن الجميع يستخدم مظلوميته شعارًا.
حتى صارت البلاد وكأنها مسرحية عبثية:
كل ممثلٍ فيها يصرخ “أنا البطل!” بينما المسرح يحترق.
الخاتمة: حين تتعب الفئات من صعود السلالم… تسقط السلالم كلها!
في النهاية، لا أحد في اليمن خرج من رحمٍ بلا هوية، لكن البعض خرج من رحمٍ يعتقد أنه مفتاح الجنة ومفتاح السلطة في آنٍ واحد.
غير أن الزمن تغيّر — واللقب الذي كان يُفتح له الباب بالأمس، صار اليوم يُفتح عليه الباب بالتساؤل والريبة:
هل ما زال النسب يحكم؟ أم أن السلطة الجديدة وحقول النفط والمصارف والبنادق أعادت كتابة “كتاب الأنساب” بخط سياسي؟
الحقيقة المُرّة والمضحكة معًا أن “الفئة الأولى” لم تعد الأولى إلا في الذاكرة، وأن المواطن العادي — الذي لا يملك نسبًا ولا رتبة — صار يملك الوعي، وهو أخطر ما يواجه أي فئة تدّعي الأفضلية.
فالفقراء الذين كانوا يقبلون العيش في “ظلّ الأشراف”، صاروا اليوم يكتبون التاريخ من ظلالهم.
ولأن التاريخ لا يحترم الفئات بقدر ما يحترم من يغيّرها، فإن اليمن، مهما طال به ليل النسب واللقب، سيفيق ذات صباحٍ ليكتشف أن “الهاشمي” و”القاضي” و”الشيخ” و”الحرفي” — كلهم في القارب نفسه،
لكنّ البحر تغيّر… ولم يعد يفرّق بين من وُلد فوق الموج ومن وُلد تحته.
📚 المراجع والمصادر:
1. ECOI.net, Yemen: Social Hierarchy and Hashemite Influence, 2020.
2. ACAPS, Thematic Report: Tribes in Yemen, August 2020.
3. Carnegie Endowment, Yemen’s Houthis Used Multiple Identities to Advance, 2019.
4. Sana’a Center for Strategic Studies, Social Structures and Power in Yemen, 2021.
5. تقارير محلية وشهادات اجتماعية منشورة في الصحافة اليمنية (2023–2024).