
تعرّي الوجدان بين أنقاض العشق :
نصٌّ بين التجرّد والانفجار العاطفي
قراءة نقدية متعددة الرؤى
لقصيدة : قرار”:
الاديب أياد البلداوي
بقلم : الناقد د.عبدالكريم الحلو
قراءة نقدية مركبة :
أولًا: القراءة الفلسفية
الوجود من خلال الانكشاف :
++++++++++++++++++
* منذ مطلع القصيدة، يتخذ الشاعر “القرار” بوصفه لحظة وجودية صارخة، يتجرد فيها من الأقنعة:
“سأهدم حصوني
وأزيل أسواري
سأبقى عاريًا أمامكِ”
إنه هنا يستحضر مفهوم الإنكشاف
عند هايدغر، فالوجود الحق يبدأ عندما يُهدم الزيف وتُكشف الذات أمام الآخر دون تزييف أو تلطيف.
القرار ليس مجرّد لحظة انفعال، بل هو موقف أنطولوجي يعيد تعريف “الذات” في ضوء “الآخر”.
ثانيًا:
القراءة السيميائية
الدالّ بوصفه كاشفًا للذات :
+++++++++++++++++
* القصيدة مكتظة بالدوالّ القوية والمشحونة مثل:
*
حصون، أسوار، عارٍ، سارقة،
عرشكِ، الشوك، جوفكِ، قلبي
* وكلها تنزاح عن معناها المباشر لتؤسس شبكة من المعاني الرمزية:
• “حصوني”
” أسواري” = دفاعات نفسية واجتماعية
• “عارياً” = كسر للذات المزيفة، تموضع في مركز الوجود
• “أنتِ سارقة” = القلب هنا يُسلب، وكأن المحبوبة تتحوّل إلى استعارة للزمن أو للخذلان المطلق
• “الشوك العالق” = رمز لعلاقة
مأزومة، مشوّهة، ممتدة داخل الذات كجُرحٍ دائم
* السيميائية هنا لا تشتغل على البُنى فقط، بل على التحوّلات بين المراحل النفسية والوجدانية للشاعر عبر العلامات.
ثالثًا:
القراءة النفسية
الغياب كصراع داخلي :
+++++++++++++++
* يُمكن فهم النص كامتلاء بالحالة السيكولوجية للـ الخذلان العاطفي المتراكم.
* فالمحبوب (أو المحبوبة) ليست فقط موضوعًا للحنين أو الغياب، بل خصم وجودي داخلي؛
* الغادر ليس غائبًا فقط، بل بقي جرحه:
“حروف حشرت في مخارجها
كالشوك عالقة بين جوفك وقلبي”
وذلك يكشف عن ما يُسميه علماء النفس الإزاحة: حيث الألم الداخلي يُسقط على الآخر المُتسبّب بالجرح.
رابعًا:
القراءة السوريالية
الشاعر ككائن منفي داخل حلمه :
+++++++++++++++++++++
* ثمة طيف من السوريالية يسري في كل بيت من القصيدة، تظهر بوضوح في التراكيب التي تتجاوز المنطق العاطفي الطبيعي نحو عوالم حلمية مشوّهة:
• الغياب بلا وداع
• عرش يُغادَر بلا مبالاة
• أنفاس تُسرق
• حروف تتحوّل إلى شوكٍ عالق بين الجوف والقلب
* إنه نصٌّ لا يُشبه الواقع بقدر ما يُشبه كابوس الفقد الصامت؛ حيث لا يحدث الانفصال بصوت، بل كخروج الروح دون جلبة.
خامساً :
القراءة الانطباعية والتأثرية
مرآة الذائقة وارتعاش القلب :
* لا يمكن لقارئ حقيقي أن يمرَّ على قصيدة “قرار” للشاعر إياد البلداوي دون أن يتوقف طويلاً عند ذلك الوجع الصريح، الذي لا يتوارى خلف البلاغة، بل يتقدّم عاريًا كما يُعلن الشاعر منذ البداية:
“سأبقى عاريًا أمامكِ
واضح المعالم”
* هذا الاعتراف يُحرّك في المتلقي الشعور بـالتعاطف الجريح، بل يُحيله إلى ذاته، إلى كل لحظة تخلٍّ، إلى كل قرار اتُّخذَ تحت سطوة الانكسار لا الرغبة.
* إنها قصيدة تُقرأ بالقلب لا بالعين، لأنها لا تخبرك بشيء، بل تُشعرك بكل شيء:
• بالألم حين يُقال دون زينة
• بالخذلان حين يكون أشد من الموت
• وبالحب حين لا يُنكر نفسه رغم الانكسار
* الشاعر لا يتوسل، لا يطلب العودة، بل يقف هناك، في العراء، رافعًا صوته:
“أنا عاشق… بل غارق في عشقه”
* القارئ يشعر وكأنه يشهد لحظة تطهير روحي داخلي، كأن الشاعر يسلخ عنه جلده القديم ليتنفس الحقيقة، ولو كانت مريرة.
* الوجع هنا مشاع، مشترك، فلا أحد يخرج من هذه القصيدة سالمًا… إلا متأثرًا.
خاتمة :
* قصيدة “قرار” لا تُقرأ مرة واحدة، بل تُردد في الذهن، كأنها صدىً لصوت داخلي كنا نخاف أن نسمعه.
* هي قرارٌ بالتعرّي العاطفي، قرارٌ بالحب رغم الهجر، قرارٌ بالشعر الذي لا يخجل من دموعه.
* ولأن الشعر الحقّ هو ما يهزّك من الداخل، فإياد البلداوي هنا يكتب قصيدةً لا تُحرّك العقل فقط، بل تترك ارتعاشة خفية في القلب.
* نحن أمام قصيدة لا تكتفي بالبكاء على الأطلال، بل تُعيد تشكيل الأطلال نفسها كأجزاء من الهوية الجديدة للمحبّ الجريح.
* الشاعر إياد البلداوي لا يرثي الحب، بل يؤسّس لفلسفة خاصة في التجرّد، في الانكشاف، في الاعتراف.
* إنها قصيدة ليست بكاءً بل قرارًا وجوديًا بالبقاء في الحزن لا هربًا منه، بل لأن فيه يكمن الصدق العاطفي الأعمق.
مع فائق محبتي واحترامي
الدكتور عبدالكريم الحلو
القصيدة:
قرار….
سأهدم حصوني
وأزيل أسواري
سأبقى عارياً أمامكِ
واضح المعالم
أزيل الشوائب التي تعتريكِ
أنا لا أبالي….
وأعلنها…
أنا عاشق …
بل غارق في عشقه
وأنا من تجرأتِ عليه
غادرتي عرشكِ…
لم تبالِ بمن تركتِ
أنتِ سارقة….
سرقتِ حتى أنفاسه
غادرتِ….
دون أن تعلنيها……
حروف حشرت في مخارجها
كالشوكِ عالقة
بين جوفكِ وقلبي
الشاعر والاديب
اياد البلداوي@