دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله في نص( خارج الحواس) للشاعر مصطفى عبد زيد

دراسة نقدية من إنجاز فاطمة عبدالله.
خارج الحواس: البنية الوجودية للصورة الشعرية في نص الشاعر مصطفى عبد زيد
تسعى هذه الدراسة إلى مقاربة نص “خارج الحواس” للشاعر مصطفى عبد زيد بوصفه نموذجاً دالاً على تحولات قصيدة النثر العربية في بعدها الوجودي واللغوي. تنطلق القراءة من فرضية أن النص يؤسس لرؤية شعرية تفكك العلاقة بين الذات والعالم عبر بنية لغوية مشبعة بالانكسار الرمزي والغياب الميتافيزيقي. تستند هذه الدراسة إلى مقولات نقدية وفلسفية لبارت و بلانشو و باشلار و سارتر لتفكيك أنساق الصورة والمعنى و الإيقاع في النص.
يقدم نص “خارج الحواس” نموذجاً متفرداً لقصيدة النثر الحديثة من حيث انبناؤه على رؤية وجودية تتجاوز الحس لتسائل ماهية الكائن واللغة معاً .
إن النص لا يعبر عن تجربة شعورية فحسب، بل يؤسس لخطاب شعري قائم على تفكيك العلاقة بين الذات والعالم، بما يجعل من اللغة فضاءً بديلاً للوجود ذاته.
وتعتمد هذه الدراسة على تفكيك البنية الوجودية للصورة الشعرية وتحليل اشتغال اللغة في تمثيل الوعي والغياب داخل النص.
وكما يرى رولان بارت في كتابه “درجة الصفر في الكتابة” (Barthes) أن “الكتابة فعل انفصال عن العالم لا وصف له” فإن هذا النص يحقق تلك المفارقة بوضوح، إذ يتحول القول إلى شكل من أشكال العدم المعبر.
دلالة العنوان وبنية الغياب
يعد العنوان “خارج الحواس” مدخلاً تأويلياً جوهرياً إلى النص، إذ تحيل مفردة “خارج” إلى فعل تجاوز وانفصال، فيما تمثل “الحواس” وسائط الإدراك الأولى للعالم. ومن ثم فإن الخروج منها يعني نقض التجربة المادية لصالح الوعي الميتافيزيقي.
يتجلى هذا البعد في قول الشاعر:
“تتدلّى من ظلك كأنّ الأرض سئمت حملك”.
في هذا المقطع، تنقلب العلاقة الأنطولوجية بين الكائن والعالم: الظل بوصفه دليلاً على الوجود يتحول إلى عبء معلق، بينما تغدو الأرض كياناً واعياً يضجر من استمرارية الإنسان. هذه المفارقة تجسد ما يسميه موريس بلانشو “الكتابة كغياب للذات في اللغة” (Blanchot ) حيث يصبح الشاعر كائناً منفياً داخل لغته.
الصورة الشعرية وبنية الانكسار
تمارس الصورة في النص وظيفة معرفية لا تزويقية، فهي أداة تفكير شعري تتجاوز البلاغة التقليدية. يقول الشاعر:
“في راحة يدك يتكوّر الصمت كبيضةٍ فاسدةٍ ينكسر فيها الضوء قبل أن يفقس”.
في هذا المشهد، يعاد إنتاج الصمت بوصفه مادة حسية تولد الدلالة من خلال تقاطع المجالين البيولوجي (البيضة) و الفيزيائي (الضوء). بذلك تتشكل ما يمكن تسميته وفق غاستون باشلار، بـ” الخيال المادي” (Bachelard )
إن الصمت هنا ليس غياباً للقول، بل فشل اللغة في الميلاد إذ ينكسر الضوء قبل اكتمال التكوين، بما يرمز إلى انكسار الوعي في لحظة الإدراك.
الإيقاع الداخلي وتشكيل المعنى
على الرغم من انتماء النص إلى قصيدة النثر، فإن الإيقاع لم يلغَ، بل تحول إلى عنصر دلالي يقوم على التكرار التركيبي و الصوتي، كما في قول الشاعر:
“كأنّ”، “يا من”، “كم”.
إنّ تكرار هذه البنى ينتج موسيقى باطنة تكرس البنية الدائرية للمعنى: الذات تطرق الهواء، والهواء لا يجيب.
“أصابعك تطرق على الهواء كمن يجرّب وجوده ولا شيء يجيب”.
يتحول الصمت هنا إلى نظام إيقاعي يعبر عن فشل التواصل وعبث المحاولة في ما يشبه ما يسميه إدموند هوسرل(Husserl) بـ”الوعي المتكرر بذاته في لحظة العدم”
بهذا، يصبح الإيقاع في النص مجازاً دلالياً للفراغ والانتظار.
الرؤية الفلسفية للوجود والغياب
ينبني النص على تصور وجودي للإنسان بوصفه كائناً معلقاً بين الوعي والفناء، وهو ما يتجلى في قوله:
“تجلس على الكرسي كما يجلس المنفى في جسد وطن قديم”.
المنفى هنا ليس فضاءً جغرافياً ، بل حالة أنطولوجية يتماهى فيها الجسد بالوطن المستهلك، وتغترب الذات داخل حدودها الخاصة.
بهذا المعنى، يعيد الشاعر صياغة سؤال الوجود الذي طرحه جان بول سارتر في “الوجود والعدم” (Sartre )، حين رأى أنّ “الإنسان محكوم عليه بالحرية”، أي بالوعي بالفراغ.
يتحول الكرسي في النص إلى بنية رمزية للسكون القاتل و يغدو المكوث فعلاً من أفعال العدم.
دينامية الانعتاق
يختتم الشاعر نصه بنداء خلاص يعيد للغة وظيفتها التطهيرية:
“غادر جلدك واترك هذا الصوت يبحث عن فمٍ آخر ليولد فيه”.
توظف المغادرة هنا بوصفها فعلاً تطهيرياً رمزياً يسعى إلى التحرر من الجسد واللغة في آنٍ واحد استجابة لما يقوله هايدغر في “في الطريق إلى اللغة” (Heidegger ) بأنّ “اللغة بيت الوجود، لكنها أيضاً سجنه”.
إنّ هذه الخاتمة تؤسس لما يمكن تسميته بـ”ميتافيزيقا الانعتاق”، إذ يصبح الانسلاخ من الجسد شرطاً للولادة اللغوية الجديدة.
ويتجلى هذا الانعتاق على المستوى الجمالي من خلال تحول اللغة ذاتها إلى كيان يسعى إلى ميلاد جديد ، فالفعل الشعري هنا لا يكتفي بالتعبير عن الذات بل يعيد تأسيسها عبر القول. إنّ الصوت في قوله “يبحث عن فمٍ آخر ليولد فيه ” لا يشير فقط إلى الخلاص من قيد الجسد، بل يرمز إلى انتقال التجربة من الذاتي إلى الكوني، أي من حدود الوعي الفردي إلى إمكان لغوي مفتوح.
وبذلك تتحقق ما يمكن تسميته بـأنطولوجيا القول، حيث تصبح الكتابة فعل ولادة متجددة، لا خاتمة للوعي بل بدايته.
يمكن القول إنّ نص “خارج الحواس” يمثل تجربة شعرية ذات عمق فلسفي لغوي متقدم تزاوج بين الوعي الجمالي و التمثل الوجودي للذات.
تتميز القصيدة ببنية لغوية محكمة وصور تتكئ على التوتر بين الحضور والغياب، وإيقاع داخلي يسهم في توليد الدلالة.
ومن خلال هذه الدراسة يتبين أن الشاعر يعيد تعريف وظيفة اللغة بوصفها أفقاً للوجود لا أداة للتعبير عنه ويمنح قصيدة النثر بعداً تأملياً يجعلها مجالاً للتفكير في الكينونة عبر الجمال.
إنها قصيدة تجسد انتقال الشعر العربي الحديث من التعبير إلى التفكر بالشعر مؤكدة أن الشعر كما يقول رينيه شار( Char) “هو المكان الوحيد الذي لا تنفى فيه الروح”
وعليه، فإن النص يشكل إسهاماً في ترسيخ النزعة الوجودية في الخطاب الشعري العربي المعاصر عبر لغة تتخذ من الغياب وسيلة للحضور ومن الصمت شكلاً للقول.
النص:
خارج الحواس
مصطفى عبد زيد – ون مليون
ها أنتَ …
تتدلّى من ظلكَ
كأنَّ الأرضَ سئمتْ حملَك
وكأنَّك تسيرُ على صوتٍ مكسورٍ
يبحثُ عن فمٍ يقولُه.
في راحةِ يدِكَ
يتكوّرُ الصمتُ
كبيضةٍ فاسدةٍ
ينكسرُ فيها الضوءُ قبلَ أن يفقس.
أصابعُكَ تطرقُ على الهواء
كمنْ يجرّبُ وجودَه
ولا شيء يُجيب.
عينُكَ لا ترى
إلّا ما فقدتَ
وفمُكَ يلوكُ رمادَ الكلام
كأنّهُ خبزُ الندم.
تجلسُ على الكرسيِّ
كما يجلسُ المنفى
في جسدِ وطنٍ قديم.
الريحُ تمرُّ من خلالِكَ
دونَ أن تخلعَ عنكَ بردَك
والوقتُ
يتكئُ على كتفِكَ
ثمَّ ينام.
يا من تمشي
وفيك صدى أقدامِك
كم حلمًا دهستَ
ولم تنتبه؟
كم وجهًا مرَّ بك
ولم يتركْ ظلَّه؟
أفقكَ ..
ككلمةٍ ناقصةٍ في جملةٍ محذوفة
وسماؤكَ
تتثاءبُ من طولِ الانتظار.
يا ابنَ الغيابِ المتوارث
يا ساكنَ الأجسادِ التي لم تعد تسكنُها الأرواح
غادِرْ جلدَكَ
واتركْ هذا الصوتَ
يبحثُ عن فمٍ آخرَ ليولدَ فيه.