كتاب وشعراء

الذين لم نلتقِ بهم بعد…..بقلم محب خيري الجمال

الذين لم نلتقِ بهم بعد
في آخر الشارع، هناك مقهى لا يراه أحد،
يجلس فيه الغبارُ متقاطعَ الساقين،
ويشرب الوقتُ قهوته ببطءٍ فاحش.
النادلُ، وهو كائن من ضوءٍ باهت،
يكتب الطلبات على أوراق الغياب،
ويبتسم لمن يجيئون بلا ملامح.
أنا زبونٌ قديمٌ هناك،
أضع رأسي على الطاولة ككتابٍ مغلق،
وأنتظر أن يقرأني أحدُهم من الخطأ الثالث في الصفحة الأولى.
الأحاديثُ تدور كالمراوح القديمة،
لا تبرد أحدا،
لكنها تجعل الحزنَ يبدو أنيقا.
في الركن المقابل،
امرأةٌ تنظر إلى فنجانها
كأنها تشاهد فيلما عن حياتها الماضية،
بينما رجلٌ بجوارها
يعدّ الأملَ على أطراف أصابعه
ثم يضيّعه عمدا في الرماد.
كلّ شيءٍ هناك يتحدثُ بصوتٍ منخفض،
حتى المقاعد تعرفُ متى تتنهد،
والنوافذُ تعرف متى تغمض عينيها كي لا ترى الفجر عاريا.
الليلُ يدخل المقهى متخفّيا في معطف دخان،
يجلس بجانبي،
ويهمس لي:
ما زال الطريق طويلا بينك وبين نفسك،
أهزّ رأسي،
وأكتب على المنديل الأخير:
كلّ الذين رحلوا كانوا يُجرّبون البقاء بطريقةٍ أخرى.
ثم أتذكرُ، على نحوٍ يوجع،
أنّ الظروفَ خانتني كما تخون المواعيدُ عشّاقها،
ولم ألتقِ بصديقي الشاعر أشرف قاسم،
ذلك الذي يشبه سطرا لم يُكمل كتابته الضوء،
وكان يمكن أن يعلّمني كيف يربّي البحرُ وحدته،
وكيف تُدارُ الحكايات بلا نهايةٍ ولا جمهور.
الآن أنا في الإسكندرية،
أمشي بمحاذاة الموج
كمن يرافق ظله في جنازةٍ بطيئة.
أقلب جيبي بحثا عن نقودٍ صغيرة
أسدّد بها ديونَ الشعر،
أو أتركه يمرّ كما يمرّ الجوع،
بهدوءٍ، وبشيءٍ من الكرامة.
كلّ المارة يبدون مشغولين بالحياة،
وأنا مشغولٌ بتبرير وجودي للريح،
وأحاول أن أكتب جملةً واحدة
تُقنع البحرَ بأن يعيد لي ما أخذَه من أصواتي.
ثم أغادرُ،
وفي الخارج،
يصافحني الهواءُ كما لو كان يعرفني منذ الخسارة الأولى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى