ترانزيت الذكريات….بقلم لمياء موسي

لم يكن أمامها سوى ساعتين فقط بعد هبوط الطائرة، لتجد البوابة الأخرى التي ستأخذها إلى رحلتها التالية، ومنها إلى وجهتها الأخيرة.
كانت تسير بخطى سريعة في الممر الواسع البارد داخل المطار الدولي، تتبع لافتات الاتجاهات كمن يسابق الوقت. وفجأة، توقفت.
تجمّدت في مكانها أمام رجلٍ ناعسٍ على مقعدٍ عريض، رأسه مائل إلى الجانب، وملامحه غارقة في النوم.
اندفعت نحوه بلا وعي، رغبةً منها في أن تعدّل من وضعية رأسه المؤلمة، وأن توقظه لتضمه إلى صدرها وتذوب داخل حضنه.
وفي لحظة اندفاعها، وخلال جزءٍ من الثانية، انفتحت في رأسها أبواب الذاكرة على مصراعيها.
اندفعت الذكريات دفعة واحدة — بيت الجدة، رائحة الخبز القديم، أصوات الطفولة، الضحك والمشاغبات، الدموع والمصالحات.
غمرتها تلك الصور حتى فاضت عيناها بالدمع، وارتجف جسدها من شدة التأثر.
تبللت راحتيها عرقًا رغم برودة الجو، واحمرّ وجهها من بكاءٍ خافتٍ لا صوت له.
انفجرت المشاعر كسيلٍ جارف — فرحٌ ممزوجٌ بغضب، شوقٌ تعانقه لوعة، حبٌّ تلتصق به غصّةُ عتب.
تلفّتت حولها تبحث بعينيها عن أولاده: أريد أن أراهم وأضمّهم، عن زوجته.
قبضت على كفّيها بقوة، كي لا تمتد إلى رأسه لتعدّل ميلانه، ثم تراجعت خطوةً إلى الوراء.
بدأ قلبها يحاول أن يلحق بعقلها، يهدّئ من فوضاه.
وقبل أن توقظ النائم، انفجر سؤالٌ داخلها:
“أخي؟! شعره غزاه الشيب… أخي أكبر سنًّا… ثم إن أخي ميسور الحال، لا يمكن أن ينام هكذا في مطار! لو أراد لاستأجر طائرةً خاصةً يسافر بها!”
تنهّدت بحزن، فكم تمنت أن يكون هو. أحد عشر عامًا عمرٌ طويل لم تره، وكأن الزمن ابتلعه.
مسحت دموعها سريعًا، وابتسمت بارتباك، ثم ابتعدت وهي تلقي نظرةً أخيرة على النائم.
ليس هو… لكنه يشبهه كثيرًا، متجاهلةً نظرات الاستغراب من المسافرين المنتظرين بجوار النائم.
لم تدرِ ماذا حدث لها حتى وصلت إلى مقعدها في الطائرة، فعقلها مثقلٌ بالذكريات.
ومن خلف زجاج نافذة الطائرة بعد إقلاعها، بعد أن تجاوزت الطائرة السحاب، راحت أفكارها تحلّق بين الماضي والحاضر والمستقبل.
أخرجت دفترها الصغير لتسجل هذه الفوضى العقلية، حتى هدأت العاصفة الذهنية وتبددت غيوم الغضب التي ظلّت تغطي قلبها سنين طويلة، وانتقادها اللاذع لتصرفاته أمام عائلتها.
حين أشرقت شمس الحقيقة أدركت أنها تحب أخاها بعمق، وأن خلف غضبها منه شوقًا خفيًّا للقياه.
حينها تنهدت، وانطلقت من قلبها طاقة حبٍّ ونور.
أغمضت عينيها لتعانقه وتغمره بهذه الطاقة، وتقول له:
“أحبك، أحبك مثل ما أنت، لا كما أحب أن تكون. بملامحك الخشبية، وقلبك القاسي، وقطعك لأرحامك، وأنانيتك المفرطة… أحبك لأنك أخي، جزءٌ مني.”
لتطهر قلبها وعقلها من طاقة غضبٍ ظلّت مكبوتةً سنين، كان المقصود منها تغييره للأفضل.
وفي لحظة وعي أدركت حين فتحت عينيها أن أعظم مراتب الحب هو الحب اللامشروط.
حينها غمرتها الفرحة والسعادة، شعرت بخفةٍ كمن تخلّص من حملٍ ثقيل، وبدأت السكينة تسطع في قلبها لتضيء وجهها، ويسترخي جسدها، وأصبح كأنه يحلّق مع الطائرة فوق السحاب.
أمسكت مفكرتها لتكتب: ترانزيت الذكريات.







