رؤية نقدية في “نص في محراب الحنين” – بقلم / حسن غريب أحمد
في محراب الحنين.. قراءة في بوح الذات عند نجلاء محجوب بقلم: حسن غريب أحمد

أولًا النص:
————-
في محراب الحنين؛
حكايات لا أعرف كيف أسردها،
ربما تاهت التفاصيل،
لكن يبقى داخلي شيئٌ لا وصف له..
ربما أكون مدينة النقائض،
أو كهفًا مغلقًا للهروب، ربما..!
ربما مدينة كل سكانها أنا،
فأنا الوحيدة المزدحمة بي،
وأنا كل الأشياء ونقيضها..!
ذلك الكهف الآمن، أنا
أنا تلك المساحة التي اختبأ داخلها كلما قست الحياة،
أو خذلني شبه سند..!
أنا شغف لا يهدأ،
امرأة تلهث على الطريق،
تقبض على أمانيها،
تواجه الحياة بضمير يقظ، ومبادئ باتت قديمة..!
أنا هدوء كخرير النهر وقت السحر،
وثورة قيد الاشتعال..!
أطرق أبواب السماء لتشرق روحي،
وأجوب دروب الحياة بقدمين من أمل..!
امرأة؛
لم يقيدني العدد،
ولم أسجن وراء قضبان العمر..؛
أنا؛
تلك الثلاثينية التي تبدو ملامحها على وجهي،
وترفض أن تفارقني،
وتلك الطفلة التي تلهو وتركض وتتعلق بالأشياء،
تحب بشدة، وتغار بشدة،
وتفرح حد البكاء،
تتسلل إلى أنسجتي حين تطمئن،
وأجدها تلهو في عز أبيها،
وتلك العجوز التي بدت ملامحها على وجهي؛
حين نبشت الأحزان حياتي،
وتغلغلت فيها بعمق إلى أوردتي، وباتت ترافقني..!
يا لِهولَ المعاناة؛
كمْ تحملت أنا،
أنا سفينة الأحزان،
أنا من وقفت على قدمين ثابتتين في بحر الرمال،
وأنا من أسقيتني القسوة حد الثمالة، حتى بدت الغربة؛
أنا..!
لسنوات مديدة لم نلتق؛
أنا وأنا،
كان الموت البطيء يغزو روحي، حين جافيتها،
كنت وافرة القسوة، حتى صرختْ معاناة،
حينها هُدمت صروح قسوتي، وسقطت إليها،
وبت أحنو عليها حد الإفراط،
أكافأها على اللاشيء، ليدثرها الفرح،
فكمْ انتظرت مني إنصافًا، ولم تجده..!
نجلاء محجوب
وهنا يبدأ الاعتراف الوجداني الأنثوي ، وتجلي الذات :
تُقدِّم الشاعرة نجلاء محجوب في نصها «في محراب الحنين» نموذجًا لافتًا لما يمكن تسميته بـ الاعتراف الوجداني الأنثوي، حيث تتجلى الذات بوصفها مركز العالم ومسرح الصراع بين الداخل والخارج، بين الزمن والذاكرة، وبين ما تبقّى من الطفولة وما ترسّخ من النضج والخذلان.
يُعدّ هذا النص بمثابة حوار داخلي مع الذات في لحظة انكشاف روحي، حيث تلتقي اللغة بالشعور لتولّد خطابًا أنثويًّا شفافًا مفعمًا بالصدق والبوح.
أولًا: دلالات العنوان ورمز المحراب:
يُشكّل العنوان “في محراب الحنين” عتبة نصّية ذات حمولة رمزية مزدوجة؛ فـ المحراب هو مكان التعبّد والسمو الروحي، بينما الحنين هو حالة استدعاء للماضي واستغراق في الذاكرة.
هذا التزاوج بين الطهر والوجع يشي بأن النص ينفتح على فضاء تطهّر وجداني، تحاول فيه الساردة أن تغسل روحها من أدران الخيبة والزمن.
العنوان، بهذا المعنى، ليس مدخلًا شكليًا فحسب، بل مفتاحًا تأويليًا يؤكد أن الحنين هنا ليس حنينًا للمكان أو الأشخاص، بل حنين إلى الذات الأولى، إلى الطفلة التي تسكن المرأة وتعيد تعريفها في كل مراحلها.
ثانيًا: جدلية الأنا وتعدد الأصوات:
يتخذ النص من ضمير المتكلم محورًا بنائيًا، فنقرأ:
«أنا الوحيدة المزدحمة بي»،
«أنا سفينة الأحزان»،
«أنا من أسقيتني القسوة حدّ الثمالة».
تبدو “الأنا” هنا منقسمة ومتصالحة في آن واحد؛ فهي تتعدد بين الطفلة والثلاثينية والعجوز، بين الأمل واليأس، في ما يمكن وصفه بـ تداخل الأزمنة النفسية، وهو ما يشبه ما تحدث عنه غاستون باشلار حين قال:
“الذاكرة ليست مجرد تذكّر، بل إقامة جديدة في الزمن المفقود”¹.
وهكذا تصبح “الأنا” عند محجوب فضاءً زمنيًا متحوّلًا، يتجاوز حدود الجسد والعمر إلى أبعاد روحية أكثر اتساعًا.
ثالثًا: اللغة بين الشعرية والبوح:
اللغة في هذا النص تتراوح بين النثر الشعري والمناجاة الصوفية، فالساردة لا تروي حدثًا بقدر ما تؤدي طقسًا لغويًا للشفاء.
الصور التي توظفها الكاتبة، مثل:
«سفينة الأحزان»،
«بحر الرمال»،
«أطرق أبواب السماء لتشرق روحي»،
تمثل انتقالًا من الواقعي إلى الرمزي، ومن العيني إلى التأملي، في محاولة لتصوير الذات بوصفها كونًا صغيرًا تدور فيه العواصف وتنطفئ فيه النيران.
تُحافظ اللغة على نغمة داخلية موسيقية دون اللجوء إلى الوزن، ما يمنح النص طابعًا صوفيًا أقرب إلى الكتابة الباطنية، تلك التي تنبع من الداخل وتخاطب الداخل.
رابعًا: فلسفة التصالح والنجاة:
يبلغ النص ذروته حين تقول الشاعرة:
«لسنوات مديدة لم نلتق؛ أنا وأنا».
فالمأساة الكبرى ليست في الآخر، بل في الانفصال عن الذات، والمصالحة اللاحقة تمثل فعل ولادة جديدة.
هنا تتجلى رؤية وجودية تتقاطع مع ما طرحه ميرلو-بونتي في حديثه عن “الوعي المتجسّد”، حيث يرى أن الإنسان لا يوجد خارج ذاته، بل يُعاد تشكيله عبر تجربته مع العالم².
ومن هذا المنظور، يتحول النص إلى رحلة خلاص داخلي، تنتهي بإعادة بناء الذات على أسس من الرحمة والوعي.
خامسًا: القيمة الجمالية والفكرية للنص:
تكمن قوة النص في أنه لا يقدّم المرأة ضحية، بل كائنًا يواجه ويعي، ويحوّل هشاشته إلى طاقة تعبيرية مضيئة.
الحنين عند نجلاء محجوب ليس انكسارًا بل منبع شفاء، والبوح ليس ضعفًا بل استعادة للسيادة على الروح.
وهكذا، يتجاوز النص الإطار الذاتي إلى بعدٍ إنسانيّ شامل، يضع القارئ في مواجهة ذاته قبل أن يحكم على بطلة النص.
وجهة نظري النقدية:
يُعد نص «في محراب الحنين» نموذجًا مميزًا لكتابة الاعتراف الأنثوي الواعي، حيث تلتقي التجربة الشخصية بالرؤية الفلسفية، ويتحوّل الألم إلى معرفة.
إنه نصٌّ يُعيد تعريف الحنين لا كذكرى، بل كعبادةٍ للذات التي لم تمت بعد.
الهوامش والمراجع
————————
1. غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، دار دمشق، 1984.
2. موريس ميرلو-بونتي، ظواهرية الإدراك، ترجمة جميل صليبا، دار الطليعة، بيروت، 1996.
3. جوليا كريستيفا، قوى الرعب: مقالة في الاشمئزاز، ترجمة فريد الزاهي، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2013.
4. عبد العزيز حمودة، المرايا المحدّبة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1998.








