رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :قلق التفاصيل

‏” من عاداتي السيئة أنني أرى نهاية الاشياء منذ بدايتها ، ومع ذلك أكمل الطريق حتى آخره لأتأكد من ذكاء غبائي”* دوستويفسكي.
في عبارة دوستويفسكي ما يلفت النظر وقد يختفي المعنى خلف الظاهر،
هل كان دوستويفسكي ليكتب كل تلك الأعمال الخالدة لو أنه قطع المشي في أول الطريق رغم وضوح النهايات وقرع جرس الانذار الداخلي بوقف التورط في تجربة؟ من النادر ان يذهب معك شخص الى النهاية كما كان في البداية لان التجربة في الطريق ولو كانت الطرق واضحة، فما حاجتنا الى الحكمة بتعبير إبن عربي؟.
من غير الممكن الوقوف حتى لو كانت النهايات واضحة في البدايات لأن كل التفاصيل في المسافة الباقية حتى النهاية. كل الاختراعات الكبرى والاعمال الادبية العظيمة والمعارك المشرفة في التاريخ كانت نتاج الوقوع في التجربة وتجاوزها.
لو أن دوستويفسكي اكتفى بالوقوف في بداية الطريق،
لما صار هذا الرائي النبوئي لأن كل التفاصيل التي عاشها، التقى بها خلال المشي حتى النهاية، بل نعثر على الحقيقة كاملة في المسافة الاخيرة نحو النهاية وعندها تكون الصورة مكتملة من كل الزوايا وهو أمر لا يتحقق في البداية وعليها يستند القرار الأخير.
ألم يقل إنني من أكثر الناس صعوبة لأنني ممن يهتمون بالأشياء البسيطة ،
وتسعدهم التفاصيل الصغيرة ، ولا أحد يهتم لمثل هذه الاشياء.”؟.
تلك التفاصيل الهائلة في المشي حتى النهاية أنتجت: الجريمة والعقاب، والأبله، وذكريات بيت الموتى، الإخوة كارامازوف، المزدوج وغيرها؟
هل كان سيعرف معاناة المحكوم بالاعدام لو لم يربط هو على خشبة الاعدام بتهمة التآمر على النظام ويقف أمام مفرزة رمي لكن قراراً من القيصر قبل اطلاق النار عليه بلحظات بالعفو عنه؟
تلك اللحظة التي غيرت رؤيته للحياة كلياً مع مصائب كثيرة حتى شق طريقه بمعجزة وسط تعقيد حياة محير.
هل كان سيكتب ” ذكريات من بيت الموتى” لو لا المنفى الجليدي في سيبريا وأهوال العواصف للمنفيين والحياة اليومية؟ كثيرون يعرفون النهاية من البداية،
لكن هناك من يفضل قطع المسافات حتى النهاية مهما كان الثمن لأنه ذاهب للتجربة بسلاح اليقظة ،
المعرفة لا تتكون من الحدس وحده بل من التجربة التي فيها ينضج ويتكون الانسان بل يكون انساناً.
لا يمكن اختراع التجربة لكن يمكن عبورها كما قال البير كامو.
الفنان والمثقف والروائي بحاجة للتفاصيل أكثر من حاجة غيره لأنها هي من تصنع العمل في النهاية كما يفعل غواص اللؤلؤ وهو يعرف ان الغوص ليس آمناً،
لكنه سيعيش متعتين: متعة الغوص ومتعة الاكتشاف. عندما يخرج الفنان أو الكاتب من نيران تجاربه وقد تحولت الى أعمال يكون الفشل مثمراً والخيبة ملهمة.
حتى لو جاءت النهايات متطابقة مع التوقع،
لا تأتي بكل تلك القوة غالباً لأنها سترتطم بجدار صلب من المصدات والمشاعر والأحاسيس والتجارب وبنية نفسية مستعدة ومنتظرة.
أليس هو نفسه من قال:
” من الغباء أن تتحدى شخصاً يعشق عزلته”؟
لأنه لن يخسر شيئاً ولا يحتاج الى أحد ومكتمل بذاته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى