غير مصنف

اِسماعيل شموط في حضرة المرأة المناضلة.. الناقدة التشكيلية: نداء الدروبي

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

بلمح البصر تتحوَّل كلُّ الأشياء حولنا إلى لون أسود قاتم.. نسترجع إلى ذاكرتنا أيام احتلال فلسطين، والأثر الموحش الذي خلَّفته في نفوسنا.. ومن هنا خرجت صرخة الألم والغضب من قلب الفنان “إسماعيل شموط” حينما كان طفلاً صغيراً، ووعى أحداث النكبة من ريشةٍ مليئةٍ بالأحزان، وكانت أوَّل لوحة رسمها وهو تلميذ بعنوان: “سنعود” عام ١٩٤٥، وهنا يسأل الطفل جدَّه عن العودة فيجيب:
-“إننا سوف نعود”.
هذه اللوحة أحدثت صدى كبيراً في الصين لأنَّه جسَّدها دون وجود أي موديل أمامه، كما حمل معاني قوية عن النكبة.
ومن هنا انطلق مشواره الأوَّل في الفن الملتزم كونه كان شديد الإحساس بالأحداث والألوان والخطوط التي منحها جلَّ المعاني الإنسانية، فكان كلُّ ركن من أركان لوحاته تضجُّ بالإنسانية والألوان بدرجاتها النضرة الشبابيَّة مع أعماله الفنية التي تعطي إحساساً بالحركة المتواترة.. ونحن لا نبالغ أبداً عندما نعتبر “شموط” قد ملك زمام الفن، وحمل خصوصيَّة من بين كلِّ الفنانين الفلسطينيين، وذلك لأنَّه وعى بمشاعره القويَّة التهجير
“من اللد إلى الرملة”، ورأى انهيار بعض الأهالي وموتهم على الطريق من شدَّة التعب والعطش، لذلك رسم لوحة “العطش” الرائعة في فترة الخمسينات. وفيما بعد تدفَّقت الأعمال من بين يديه كالنغمة الشجية التي تثير فينا مزيداً من اللوحات والمشاعر الملتزمة أكثر نتيجة لصدقها.
كتب الشاعر نزار قباني:
أكتبُ للصغار
قصة بئر السبع واللطرون والجليل وأخي القتيل.
هناك في بيَّارة الليمون أخي القتيل
هل يذكر الليمون في الرملة.. في اللدِّ وفي الجليل
أختي التي علَّقها اليهود في الأصيل من شعرها الطويل
وهكذا نرى المرأة في أحد أعمال شموط تجمع الأطفال حولها تربِّيهم لكي يدافعوا عن أرضنا السليبة، وينتزعوا حقوقهم من فم الصهاينة المارقين، وهي تخرج من أعماق البسيطة كجسد واحد تتفرَّع عنه ثلاث نساء.. الأولى: تنظر مباشرة وتبتسم بخفة بينما يتسم وجهها بالارتياح الداخلي، لكن يظل الحزن مسيطراً على عينيها ونشعر بالغصة بارزة في عنقها وكأنها تكتم غيظها.
وإذا تتبعنا خطوط اللوحة بتأنٍّ فسوف نلاحظ تلاقيها مع بعضها في حركة الأيدي، وتماهيها مع الأفق في حركة يد المرأة في الجانب الأيسر من اللوحة، إذ ترفع يدها ورأسها إلى السماء بوجه شاحب حزين جداً وكأنها تدعو إلى الله وتتضرَّع بالابتهالات. بينما الفتاة في مقدمة العمل تفرد يدها اليسرى تحاول أن تطير حيث يتجلَّى هذا بوضوح من التفاتة المرأة إلى جانبها الأيسر عندما تعمد إلى مطِّ جسدها إلى الأعلى ورفع رأسها ويدها، لتتأكَّد تماماً أنَّ كلَّ حركة تُكمل الأخرى، فالمرأة في الجانب الأيمن تتطلع باطمئنان إلى الأسفل حيث الجموع الغفيرة من أفراد الشعب والأطفال، وهم أمل المستقبل وشعلته المضيئة.. فيما الحركة العامة للنساء تشبه الرقص الهندي الإيمائي، وفن الحركة الحديث، والاسكتشات السريعة من أجل تجسيد الجموع.
أمَّا الوشاح على رؤوس “النساء الثلاث” فهو مسترسل ومتداخل بثناياه مع بعضه البعض بحيث يشبه انسياب الماء الرقراق في الجداول الخضراء المليئة بالخير والعطاء، فكيف لا والمرأة هي من تنجب الأبطال وتُوجِّه الجيل إلى حبِّ الوطن.
والأمر المهم في اللوحة أيضاً هو توزيع الألوان الصفراء ومشتقاتها على مُسطَّح القماش باتزان وعقلانية وتمرُّس… ومع أننا نلمس بعضاً من ألسنة النار الحمراء والبرتقالية تشتعل بحقد في المكان من بعيد، إلا أنَّ إرادة الشعب الفلسطيني وإصرار الأم على ضخَّ قوافل الأبطال والشهداء أقوى من كلِّ شيء.. فهي صلبة كالسنديان صامدة كالجبال في وجه الريح العاتية.. تروي الأرض بشقائق النعمان ومع ذلك لا يفقدها “شموط” روعتها وأنوثتها.
وبجانب هذا يعمل الفنان على رسم التفاصيل والزخارف، وتحريك الجموع التي تبدو غاية في التشابك فكلُّ جزء من اللوحة يحمل قصة ما من طقوس الأعراس والخصب والعطاء ومخيمات اللجوء وحكايات الأطفال في الأزقة الفلسطينية. بينما ينبيء لون الأرض الكموني والأصفر المشع أحياناً إلى يوم الحصاد، وحركة المزارعين وهمومهم في كلِّ ركن من أركان اللوحة. في حين يرسم الفنان بعضاً من معالم فلسطين، ومنها: “قبة الصخرة” بلونها الذهبي المشع الشبيه بتوهُّج الشمس التي توزِّع نورها في كلِّ مكان، وتمنح الناس فرحة العيد والحالة المريمية الراقية والدفء والاطمئنان التام…
فيما تنذر السماء الزرقاء الملبَّدة ببعض الغيوم بمطر قريب ونصر مبين يعيد النقاء للنفوس الوطنية البريئة، فحركة الحشود من الشعب الفلسطيني المُشرَّد تتحرَّك في اللوحة كأمواج البحر العاتية المكتسحة، المشحونة بإيقاع لاهث مشتعل، رغم استخدام الفنان للونين الأزرق والأبيض البارد، إلا أنَّ حركة الخطوط المنفعلة نوعاً ما تتحرَّك بسرعة وزخم كبيرين في اللوحة، وتُكوِّن وحدة زخرفية بشرية هائلة ورائعة تلفت إليها الأنظار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock