حمزه الحسن يكتب :إختراع السراب

يعتقد البعض ان التاريخ قد بدأ به وما يشاهده هو لم يحدث من قبل ، وحوادث اليوم لم تقع من قبل ، السبب في ذلك الذاكرة المبتورة أولاً ، والتمركز الذاتي ثانيا عندما تحل الرؤية الذاتية محل الرؤية الموضوعية وعندما يصبح الفرد معيارا للحقيقة.
حتى صور حروب مدمرة ندفع ثمنها الان وبعد عشرات السنوات تصور كإنتصارات من جيل لم يشارك فيها ولم يعشها ويؤمن ان الصورة الانيقة هي الواقع الحقيقي ولا يعرف ماذا خلف الصورة.
التمركز الذاتي (أو Self-centeredness) هو حالة نفسية أو سلوكية تميز شخصًا يركز بشكل كبير على نفسه واهتماماته الخاصة في كثير من الأحيان على حساب الآخرين. يُظهر الأشخاص الذين يعانون من التمركز الذاتي اهتمامًا محدودًا بمشاعر واحتياجات الآخرين، وغالبًا ما يعتقدون أن كل شيء يجب أن يدور حولهم أو يتوافق مع رغباتهم.
من هذه الزاوية يصبح كل حدث أو شخص أو الواقع رؤية ذاتية ولا توجد حقائق موضوعية وما يراه هو الحقيقة في حين لا يرى شيئاً في هذا النوع من التفكير السحري الاختزالي.
لأول مرة يرى الناس شعباً مختلفاً ويكتبون عن ظواهر ومعجزات وخوارق.
كتب مواطن يقول إنه رآى معجزة في ساحة التحرير في المظاهرة وهي انتشار المودة والالفة بين الناس،
كما لو أن هذا المواطن البريء خرج من نفق أو وكر وحوش مع أن المودة والألفة كانت سائدة بين الناس قبل الدول وحتى بين الحيوانات التي تتضامن مع بعضها وتساعدها وتربي صغارها وتعرف الحدود الاخلاقية ومحاكم النمل والغربان أحد الأدلة.
أحيانا على العكس هناك عجب وصدمة ومعجزة مضادة في رؤية لصوص
وقتلة وسوق نخاسة ونظام جواري مخفي ونساء سبايا بعنوان زوجات
مع ان اكثر من نصف نساء العراق يعشن في طلاق مقنّع تحت سلطة ذكور هم أكثر شراسة وعنفاً من السلطة وجزء منها.
كنب عبقري يقول إنه يرى لأول مرة في حياته ـــ كما لو لا حياة من قبل ـــ زوجاً يضرب زوجته في الشارع ولا يعرف هذا المسكين ان العنف الاسري الجسدي والنفسي واللغوي وخلف الجدران يفوق أي قبو تعذيب سياسي.
تكاد واحدة ولدت قبل ربع ساعة أن تصاب بالاغماء من قتلى الشوارع في مظاهرات تشرين 2019،
كما لو أن ملايين القتلى الذين إمتلأت بهم الشوارع والسجون والحروب والمنافي والانقلابات والمشانق والهاربين والمشردين داخل وخارج العراق ـــ 5 ملايين في الخارج ـــ من منتصف القرن الماضي ولا نذهب أبعد،
قد صعقتهم كهرباء.
قارئ باحث وتفكيكي شاهد إحدى الخوارق حول سائق سيارة تكتك لم يسأل عن الأجرة وهو ينقل جريحا للمستشفى،
مع أن رعاة الأباعر على مر العصور كان ينقلون كل تائه وضائع في الصحراء.
قارئة مخروعة مذعورة من اختراع اللبن تقول إن
قلبها وقف من مشهد رأته بعينيها اللتين سيأكلهما الدود وهو مشهد عراقي يبكي على جثة شهيد. هل من المنطقي أن تقف على جثة ميت وتضرب الطبل وترقص؟
مع أن كلكامش قبل آلاف السنين هام وناح وبكى على موت أنكيدو وترك مملكته بحثاً عن الخلود،
قبل زمن التكتك ودخل حانة في بابل وشرب حتى الثمالة ورموه للخارج
لأنه مفلس ورفض الدفع واخترع حكاية عشبة الخلود التي سرقتها الأفعى.
أحد القراء كاد أن يموت من الفرح وهو يشاهد الأب والإبن نائمين في حديقة،
مع أن الإمام الحسين وعياله خاضوا معركة في ظهيرة مهلكة وهم عطشى وتحت النبال وبريق السيوف.
أحد القراء رأى عجباً لا تراه العين إلا عند كل قرن أو أكثر: إمرأة توزع الطعام على الشباب في ساحة التحرير،
مع أننا حتى في أحلك السنوات كانت النساء تخرج في المساء ، للعفة، وتوزع الطعام على الأرامل واليتامى مع بعض الملابس مع أول الظلام في نوع من الضمان الاجتماعي العفوي نتاج تقاليد رائعة.
يكاد أحد القراء أن يحلف بكل المقدسات من منظر غريب وعجيب عن رجل أعرج يشارك في الاحتجاج،
وفي ثورة العشرين كان الشيخ شعلان العطية يعاني من الرعاش باركنسون فخرج للمشاركة في الثورة فقالت له إمراة:
” وين رايح وانت ترعش؟”
فقال لها وهو يمضي:
” أرعش، ما أرعش، هذا آنه ، تندار الدنيا وهذا آنه”.
لانه من العار أن يبقى الرجل في داره والوطن في خطر والرجال في المعارك. على أي شيء تدل هذه الظواهر وحالات الانبهار والصدمة من مشاهد انسانية عادية؟
بلا شك تكشف عن حجم الخراب في النفوس وعلى قطيعة جيل مع كل ما هو نظيف وحي ونبيل كما لو ان التاريخ بدأ اليوم ولا قبل ولا بعد،
بعد حروب وحصار وارهاب وتشوه،
بعد الخروج من القبو النفسي المعتم إلى الضوء.
لا يتوقف “مخترعو السراب” عن ابهارنا باكتشافات وخوارق ومعجزات لم تحدث إلا عندما اكتشفوها هم لأن التاريخ يبدأ عند هؤلاء من الحدث الأخير وهذا التمركز الذاتي ليس طريقة خاطئة في العلاقة بالواقع فحسب بل هو مرض الانفصال عن الواقع وعن الذات وبناء ذاكرة انتقائية تتذكر وقائع وتتجاهل او لا تعرف أخرى وهذا التمركز يذهب ابعد من ذلك الى نوع من الاعتقال الذاتي عندما يتولى الفرد ممارسة القمع ضد نفسه بلا حاجة الى سجن ولا قضبان.









