كتاب وشعراء

قانون الكبرياء…..بقلم جميلة بنّور / تونس

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

حين يصبح الصمت أصدق أشكال الرحيل.
في قانون الكبرياء، يُقال إن العتاب مرّتان، والثالثة: أراك بخير… وكأنّ هذه المقولة تختصر خبرات العمر، وتلخّص دروس العلاقات البشرية بكل ما فيها من محبة وخيبات، من صبر ومن حدود يجب ألا تُمسّ. ليست مجرد كلمات تُقال في لحظة غضب أو يأس، بل فلسفة كاملة في التعامل مع الآخرين، تقوم على مبدأ واضح: إنّ كرامتك ليست مساحة للتفاوض، وإنّ قلبك ليس ساحة مفتوحة للعبث.
ففي المرّة الأولى، يكون العتاب رسالة رقيقة، فيها بقايا دفء، وفيها محاولات صادقة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. هو خطوة إنسانية راقية تقول للآخر: لقد آذيتني، ولكنك ما زلت مهمًّا بالنسبة إليّ. العتاب الأول يشبه يدًا تمتدّ، وقلبًا ما زال يؤمن بأن العلاقة تستحق فرصة، وبأن سوء الفهم قابل للإصلاح، وأن الجرح ما زال سطحيًا لا يحتاج إلا إلى كلمة طيبة.
أمّا العتاب الثاني، فهو مرحلة اختبار: اختبار لقيمة الشخص في حياتك، ولقدرته على فهمك واحترام مشاعرك. هو محاولة أخيرة تبذلها لأنك لا تزال تحمل شيئًا من الأمل، ولأنك تؤمن أن من يحبّك سيصله صوتك هذه المرّة، إن لم يصله في المرّة الأولى. لكن هذا العتاب غالبًا ما يكون أثقل، أبرد، أكثر وضوحًا… لأنك، في قرارة نفسك، تعرف أنّ التكرار ليس ضعفًا، بل صبرًا على حافة الانكسار.
ثم تأتي المرّة الثالثة… وهي ليست عتابًا، بل صمتًا ثقيلًا يقول كل شيء. ففي هذه المرحلة، لا يعود الكلام مفيدًا، ولا يعود القلب قادرًا على بذل المزيد. هنا يختار الإنسان أن يتراجع خطوة، أن يضع حدًّا نهائيًا، وأن يرفع راية كبريائه، لا بدافع الغرور، بل بدافع حماية النفس. لذلك يُقال: “الثالثة أراك بخير”؛ عبارة تبدو لطيفة، ولكنها في الحقيقة إعلان مغادرة، سلام أخير بلا رجعة، إغلاق لباب أُرهق من كثرة الطرق.
هذا القانون غير مكتوب، لكن الجميع يفهمه. لأن العتاب ليس ترفًا، بل دليل مكانة، ودليل حب. وما دام الحب موجودًا، يبقى الإنسان قادرًا على العتاب. أمّا حين يتوقف العتاب، فذلك يعني أن العلاقة انتهت من داخلها قبل أن تنتهي في ظاهرها. فالقلوب لا تغادر فجأة، بل تتآكل تدريجيًا، حتى تصل إلى النقطة التي يصبح فيها الرحيل أرحم من البقاء، والصمت أكرم من التوضيح.
وفي هذا القانون درس عميق: أن تحبّ الناس، ولكن دون أن تُهدر نفسك؛ أن تعاتبهم، ولكن دون أن تُكرّر وجعك حتى تفقد قيمتك؛ وأن تمنح فرصًا، ولكن دون أن تسمح لأحد أن يعتبر صبرك ضعفًا، أو حضورك أمرًا مفروغًا منه. فالكبرياء هنا ليس كبرياء زائفًا، بل احترام للنفس، وإيمان بأن العلاقات الصحية تقوم على التبادل، لا على الاستنزاف.
وفي النهاية، حين تقول لشخص: “أراك بخير”، فأنت لا تتمنى له الشر، بل تختار لنفسك السلام. تختار أن تتركه للمسافة، وللحياة، ولما يختاره القدر له، دون أن تبقى متورطًا في دائرة أذى لا تنتهي. وهذا بحد ذاته قوة… بل أعلى درجات القوة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock