حمزه الحسن يكتب :قصة لم ترو

الضمير لا يُعذب عادةً أولئك الذين هم مجرمون. * إريك ماريا ريمارك، روائي الماني مؤلف رواية: للحب وقت وللموت وقت وليلة لشبونة.
ما الذي يدفع دولة تمتلك المال والجيوش والسلاح والاتباع والسجون والاعلام لمطاردة روائي اعزل وقتله او نفيه أو التشهير به؟ حتى وفاة البير كامو التي فسرت على انها حادث اصطدام سيارة ظهرت معلومات جديدة تقول ان المخابرات الستالينية أحدثت خللاً ميكانيكاً في سيارة صاحب دار غالمار للنشر التي أقلها كامو الذي كتب نقداً عنيفا ضد ستالين ،
والأمر نفسه مع الروائي أرنست همنغواي الذي قيل انه إنتحر لكن الوثائق التي رفعت عنها السرية تروي ولو بطرق التفافية قصة مختلفة، قصة اغتيال. كل هذا الصراع هو حول اختلاف السرديات بين النظام وبين الروائي الذي لا يملك دبوساً يحارب به بل سلاحه الكلمات ومن يكرهه، يكره الكلمات .
خلال قراءة كتاب ” همنغواي: الأديب العاشق، القصة التي لم ترو بعد” عن همنغواي بقلم صديقه آرون إدوارد هوتشنر الذي سبق ان كتب عنه كتابا بعنوان” بابا همنغواي” فوجئت بالظلم الكبير وسوء الفهم الذي تعرض له أرنست همنغواي حتى من صديقه الحميم آرون نفسه عندما وضع في مصح نفسي كمريض بفوبيا المطاردة وعولج بالصدمات الكهربائية التي منعت في السنوات الاخيرة لقسوتها.
كتاب “الاديب العاشق” لآرون إدوارد هوتشنر وضع قبل رفع السرية عن ملف همنغواي في الاف بي آي رغم حجب صفحات كثيرة لحساسيتها ، لكن هذا الملف يوضح ان همنغواي كان محقاً عندما كان يقول لزوجته ماري وصديقه آرون إدوارد انه مطارد في كل مكان حتى في المصح ولم يصدقه أحد.
بعد رفع التقارير السرية الامريكية من الاف بي اي عن الروائي الامريكي أرنست همنغواي لمرور نصف قرن، مؤلف الشيخ والبحر ووداعا أيها السلاح
ولمن تقرع الاجراس وغيرها وحامل نوبل،
عثروا على حقائق صادمة تتعلق بالسجل السري للروائي الذي طالما أخبر زوجته ماري وبعض المقربين أنه يشعر بمراقبة له في كل مكان،
وكان هؤلاء قد فسروا حالته كشعور بفوبيا المطاردة وليس شعوراً واقعياً،
مما ضاعف من ازمته النفسية وغرق في كابة حادة ومشاعر العجز والقلق،
لكن الوثائق المفرج عنها تؤكد بشكل دامغ ان همنغواي كان تحت المراقبة من الاجهزة الامنية منذ عام 1942 حتى يوم انتحاره الغامض 1961.
من تلك اللحظة صمتت زوجته عن أي تعليق سوى الأول المقتضب في أنه:
” قتل خلال تنظيف بندقية الصيد”.
يبدو التصريح جافاً ورسمياً واختفت ماري نهائياً. همنغواي مؤلف: الشيخ والبحر، لمن تقرع الأجراس، وداعاً أيها السلاح، الشمس تشرق ثانية ، الموت في الظهيرة، باريس عيد متنقل ….وغيرها،
الذي يحمل في جسده أكثر من أربعين شظية، ونجا من تحطم طائرتين مع ماري ثم جاءت طائرة انقاذ وسقطت هي الاخرى ولم تفتح الباب بسبب النيران مما اضطره الى كسرها والخروج من الفرن المشتعل كما وصفه وجلس يقرأ في الصحف العالمية خبر مقتله وجلده محترق ،
كيف يُعقل أن ينتحر في حديقة في نهار مشمس في كوبا؟
قيل سريعا انه لم ينس قصة حب ظل عالقاً بها عن ممرضة التقى بها
في ساحة حرب وكتب عنها في رواية: “وداعا ايها السلاح” وتحمل اسم كاترين، بل أبعد من ذلك قيل إن همنغواي قتلها لخيانتها له
وقد وجدت فعلاً مقتولة في لندن لكن لقضية مختلفة بسبب خيانة زوجية،
ولا يمكن فهم كل هذا الخلط بعد زواجه اربع مرات من تلك العلاقة
وجائزة نوبل وشهرته المدوية وتهالك النساء عليه واحداهن بولين التي خربت حياته كما يذكر آرون إدوارد التي لاحقته في كل مكان وحاول التملص منها مرات لكنها كانت تعرف كيف تعيده للتعلق بها وهي قصة لم ترو من قبل رون إدوارد هوتشنر احتراما لزوجة همنغواي الاولى الفرنسية هادلي رتشاردسون المرأة الجميلة البريئة التي احبها وساعدته كثيرا يوم كان ضائعا ومفلسا ومجهولاً في باريس وانتهى الامر ببولين ان تموت مهجورة ورفض ابنها العيش معها ورعايتها لسلوكها المنحرف والمتقلب.
يقول كاتب سيرته آرون إدوارد انه تابع كتابة همنغواي لكتاب” موت في الظهيرة” خلال فترة علاجه وأسعده ان ذاكرة همنغواي تلتقط ليس المشهد العام بل التفاصيل الدقيقة لحركات الناس والكتاب عن مصارعة الثيران في اسبانيا التي تولع بها لكنه كتاب عن المغامرة والشجاعة والاقتراب من الموت وهمنغواي يحب الاقتراب من الموت.
لم يكتب همنغواي عن تجربة لم يعشها لذلك كتب حياته بالاقدام قبل الورق.
مشاهد قتل الثيران في تلك الاجواء الاحتفالية ومشاعر الصخب والبهجة تذهب أبعد من ساحة مصارعة الثيران الى أعماق الانسان نفسه وما يحركه فيه هذا القتل من دوافع غامضة أبعد من الحدث.
الغريب ان المعلومات الاخيرة تشير الى ان البير كامو لم يقتل في
حادث ارتطام سيارة مع رئيس دار نشر غاليمار، بل ان عطلاً ميكانيكاً تم احداثه في السيارة من قبل الكي جي بي المخابرات السوفيتية لادانته ستالين ونظام المعتقلات السرية بقسوة التي استمرت حتى بعد موت الزعيم أو سوسو كما كان يلقب في حانة تفليس في جورجيا مع عصابات السرقة والقتل والسطو على المصارف والاغتيالات وممول الثورة من السطو على المصارف وحرق المزروعات وتلك الحانة صارت امبراطورية وصار سوسو رئيسا لها ودمرها أيضاً بقسوته كما فعل سوسو العراقي من القاع نفسه وعالم الشقاوات نفسه ونقل تقاليد الشوارع الخلفية في الغدر والخيانة الى السلطة وصارت نظرية عمل ،
وكان نسخة بدوية متخلفة من ستالين وقلده في كل شيء، في تصفية الرفاق ونظام الحراس واجهزة أمن متعددة والمشية والقصور والبذخ وحتى انه لم يتكلم باللهجة التكريتية إلا عندما صار رئيسا مثل ستالين الذي لم يتكلم باللغة الجورجية العامية إلا بعد أن صار رئيسا، وكلاهما تعكزا على زعيم سابق مريض وهرم،
لكنه أقل كفاءة وذكاء ً وثقافةً من ستالين وأكثر وحشية ورعونة منه ومن بين كل الالقاب أحب سوسو العراقي لقب: صيّاد رجال كما لو ان الحياة غابة.
ملف همنغواي السري في 142 صفحة ويحتوي على 43 تقريراً
خلال عشرين سنة، وحسب صديق همنغواي وكاتب سيرته آرون أدوارد
ومصدر كل الكتابات عن الحياة الخاصة له،
يقول إنه صدم من ملف الأف بي أي ووصف الملف بالفاجعة لانه هو نفسه كان معتقدا ان همنغواي مريض نفسيا ورافقه حتى في مصح نفسي بحراسة ومغلق خوفا من الانتحار.
كتب آرون في صحيفة نيويورك تايمز إنه لم يصدق ملف همنغواي وحسب آرون أدوارد وضعت خطة لدفع همنغواي للجنون، وكان مطارداً من رجال الأف بي آي حتى في مصح للعلاج من الإكتئاب ولم يكن أحد يصدق مخاوف همنغواي عندما كان ينظر الى شخص وقال لزوجته انه من الاف بي آي وانزعجت ماري من مخاوفه المتخيلة التي كانت حقيقية.
أبعد من ذلك وضعت خطة لتشويهه بالايعاز لكتاب تحت اليد بكتابة مقالات سيئة عنه وكتب عنه أحد هؤلاء مقالاً وصف همنغواي أسوأ من كتب باللغة الانكليزية مع ان لغة همنغواي المكثفة المتقشفة العميقة في بساطتها ظاهرة استثنائية في الرواية العالمية ومنها خرجت اجيال روائية،
وهذا المقال عُثر عليه في ملف همنغواي السري ومن قبل كاتب تافه وسطحي عديم القيمة للاهانة والاساءة.
كان يجب تدميره وهو حي وتثير بعض السطور المحجوبة من الوثائق الظنون حول اسباب الحجب والارجح تتضمن معلومات حساسة جدا لا يجب الاطلاع عليها يوما. هل كانت تتعلق بخطط اغتيال؟
جون أدغار هوفر مدير الأف بي آي كتب رسالة الى السفير الأمريكي في كوبا حيث يقيم همنغواي بعد ان خصص له كاسترو بيتا خاصا يقول:
” لا تغرنكم شهرته ويجب أن نظهره بصورة الرجل المخبول phoney”.
هنا تلتقي النظم الرأسمالية مع النظم الشيوعية في طريقة التشهير بالكتاب والمثقفين المختلفين كما لو انهم من مدرسة واحدة مع ان الجنون في صميم نظم القمع لكنه جنون بعنوان دول.
ترافق ذلك مع مقالات لا تتحدث إلا عن همنغواي المجنون وتهمة الجنون مفضلة لدى النظم القمعية كما صورت الدعاية السوفيتية الروائي الكسندر سولجنتسين على انه مجنون بعد فوزه بنوبل عن رواية” أرخبيل غولاغ” التي فضحت السجون السرية وهزت عرش الاتحاد السوفيتي في الغرب يوم كان مغلقاً ولا أحد يعرف ماذا يدور وأحرج الأحزاب الشيوعية الاوروبية التي كان بعضها قريبا من الوصول الى السلطة كالايطالي والفرنسي والاسباني.
كانت المخاوف من همنغواي من مواقفه من النظام الامريكي وعلاقته بكاسترو وللتذكير ان كاسترو نفسه تعرض لاكثر من الف محاولة اغتيال، كذلك شهرة همنغواي وسبق له ان شارك في الحرب الاهلية الاسبانية في الثلاثينات مع الجمهوريين ضد الملكيين الفاشيين وكتب روايته الرائعة” لمن تقرع الأجراس”،
ولكنه لا يصنف في اطار سياسي وسبق وان شارك في الحرب العالمية الاولى والثانية ودخل باريس مع الجيش الامريكي بعد تحريرها من النازية،
وكذلك من علاقته بكاسترو الذي استقبله بترحاب وزاره مرات في منزله في كوبا الذي صار اليوم متحفاً يضم مقتنياته كما هي.
هل انتحر همنغواي أم نُحر؟ سؤال ظل معلقاً خاصة أن صمت ماري زوجته
بشكل مطلق ورفض اية مقابلة عزز الظنون من أن تكون تلقت تحذيراً بعدم الكلام، ومن خلال تتبع سيرته يتضح انه عاش أيامه الأخير في جو الكآبة والقلق.
في كل اعمال همنغواي وفي حياته التركيز على رفض الهزيمة وفكرة عدم الاستسلام وقد جسدها في حياته وفي عبارته الشهيرة:” يمكن سحق الانسان لكن هزيمته مستحيلة”
وشارك في حربين عالميتين والحرب الاهلية الاسبانية وفي الصيد وفي غيرها واقترب من الموت مرات حتى نساه.
هل كان قتل همنعواي هو التجسيد لتشويه صورته كرجل مهزلة ومخبول بعد فشل كل المحاولات؟
في الظهيرة الأخيرة كانت ماري في المطبخ تغني وهمنغواي في الحديقة المشرقة يردد المقطع التالي، وهي لحظات وجو لا يسبق الانتحار،
عندما دوى طلق ناري فجأة وخرجت لتجده غارقا بالدم. من أين جاءت الرصاصة؟
صحيح ان تلك الرصاصة قتلت همنغواي ومن المحتمل البير كامو في حادث مدبر وكثيرين قبل وبعد هؤلاء، لكن كل رصاص العالم لا يقتل كلمة واحدة وكما قال بابلو نيرودا:
” “تستطيعون قطف الزهور، لكنكم أبداً لا تستطيعون وقف زحف الربيع”.
ـــــــــــ الصورة : همنغواي مع كاسترو الذي خصص له بيتاً هو الآن متحف وفيه كتب روايته الشهيرة” الشيخ والبحر”.









