حمزه الحسن يكتب :زمن الوباء العراقي

في ليلة القبض على صدام حسين كتبت سلسلة مقالات بعنوان” الامبراطور الحافي: أوهام القبض على الدكتاتور” تحولت الى كتاب عام 2004 وسبب التسمية انه في خطاب متلفز قال تعلمت حكمة من نابليون في ان على الحاكم ان يتعلم المشي في ذروة سلطته تعكس هاجس الخوف من فقدان السلطة كما توقع.
ثم الى رواية ” حارس السلالة” عام 2010 في ان الدكتاتور ليس شخصا بل عقلية ومنظومة تفكير وطريقة في ادارة السلطة والدولة والمجتمع،
و”حارس السلالة” هذا لا يموت بل يتناسل ودرب خصومه ومعارضيه على أفكاره هو في الثأر والانتقام والحيازة ومُلكية السلطة لا على فكرة بناء دولة مدنية حديثة وعادلة تكون أفضل انتقام منه.
لذلك نحن شعب نعاني من وباء اسمه وباء صدام حسين وفي مجتمع أسسه بنفسه هو” المجتمع المستشفى” لأن تجربة 33 سنة حكم من الخوف والحروب والاذلال كافية لاصابة قارات بالجنون ومن لم يمرض في ذلك الزمن فهو إما منتفع أو وحش، وحتى اليوم ما يزال صدام حسين يشكل نظرتنا للحياة والاحداث من خلال نظام مقارنات صبياني بين ما كان وبين ما هو الآن، واختزال صدام بأنه” المنتصر على ايران” مع انه نفسه اعترف انها كانت مؤامرة على الشعبين خلفت غزو الكويت وتلك الحرب كانت مذبحة ومن شارك فيها يعرف ان أقذر كلمة تقال عنها هي النصر لأنها من أوصلنا الى حال اليوم.
في ليلة الاعتقال لم تتبدل القناعة الخاصة المتكررة والقديمة بأن هذا الدكتاتور ليس شخصا فحسب، بل عقلية وظاهرة تاريخية سلوكية وهو تشكيلة من القيم الحزبية والعشائرية والسياسية التي تمارس القتل المتعدد الأشكال والنفي والإقصاء المادي والمعنوي تحت شعارات وقناعات وعقائد ” ثورية” هي عبارة عن مطلقات في كل شيء.
لكن الذهول الذي أصاب الناس، بصرف النظر عن تباين المواقف، عن طريقة القبض على الدكتاتور هي التي تستحق التوقف لأنها تعكس جملة من الأوهام التاريخية العريقة عن ظاهرة العلاقة بين الطاغية والجمهور، حتى يبدو مشهد القبض على الطاغية وكأنه مشهد القبض على أوهامنا مختبئة في ذلك القبو العميق المؤدي إلى عوالم داخلية عميقة غائرة في الدم والتاريخ والغريزة والعقل.
لم يكن قبوا عاديا فحسب، بل كان قبو الدخول إلى سراديبنا السرية المخبوءة في الليل العقلي المظلم الذي كان مدهشا أن نراه مفتوحا وماديا وبسيطا مثل أي وهم ضخم ومهين ومعيق وبغيض.
لذلك يمكن القول ببساطة فتحة القبو أن المقبوض عليه ليس الطاغية وحده، بل تاريخ العلاقة المشوشة والمضطربة بين صورة الطاغية عن نفسه وصورته في ذهن الجمهور وهي علاقة لم تكن دقيقة على مر التاريخ.
أحد أكبر الأوهام التي ظهرت في القبو هو وهم الشجاعة الذي كنا نفهمه ونتصوره في الطاغية. ولعل الصيحات الكثيرة عن الطاغية الذي:
ـ لم يقاتل حتى الرصاصة الأخيرة. ـ استسلم كفأر.ــــ يدفع الناس إلى القتال وهو يسلم ـــــــــــــ لم ينتحر.ـ ظهر أنه جبان.ـ أين ذهبت الرصاصة الأخيرة والحزام الناسف والمسدس الذي لا ينزع؟ الخ من الصيحات.
هذه الصيحات وغيرها غدا تعكس طريقة فهم الجمهور لصورة الدكتاتور أولا، وتعكس الفهم الوحشي لمفهوم الشجاعة البدائي ثانيا، وثالثا، طريقتنا في اختزال الشخص سواء كان صدام ام غيره في المشهد الاخير والغاء كل التاريخ الوحشي كما فعلنا على منصة الشنق لاننا ” كائنات الغاء” نختزل الشخص في سلوك واحد سلباً أم ايجاباً ونلغي كل الشخصية كرمي سلة تفاح لمجرد تفاحة فاسدة وهذا هو العقل الاختزالي المتخلف حتى في الحياة اليومية وبين نخب الثقافة والادب.
حسب هذه الصيحات، وهذا الذهول وهي لجمهور مختلف في نظرته لهذا الرجل،فإن الدكتاتور ظهر لأول مرة جبانا لأنه لم يقاتل ولم ينتحر.
لذلك نقول أن الذي خرج من القبو، مقبوضا عليه، ليس الدكتاتور وحده بل أوهامنا الكثيرة والعريقة والمتناسلة منذ قرون والتي لعب كل طغاة هذا الشرق اللعين على أوراقها، وغذوا في كل قرن المخيلة العامة بمزيد من الأوهام.
وبما أن الحديث هنا سيكون عن أحد أكبر الأوهام الذي قبض عليه مع الرجل، فسيكون الكلام مقتصرا على معنى الشجاعة الوحشي الذي يريده الجمهور من أصدقاء وأعداء الدكتاتور لانه شخصية تستعصي على معارضيه وعلى مؤيديه وهو غاطس في شخصيات سرية متعددة مريضة والسياسة غطاء ولم يكن في اية لحظة حزبياً أو سياسياً لكنه مثل دوراً على جمهور حياً وميتاً بل خدع حراسه في السجن الامريكي وصاروا ينادونه بالعم وعاشوا في كآبة بعد الشنق وحتى عندما عادوا الى امريكا تحطمت حياتهم تماماً كما يذكر كتاب” سجين في قصره” الذي كان أحدهم .
من حسن الحظ أنه لم ينتحر أو يقاتل لكي لا يستمر هذا الوهم الخطير زمنا أطول مما يستحق ويبني معه سلسلة أوهام متداخلة كثيرة.
الأسطورة التي خلقها عن نفسه هي أسطورة الرجل الذي لا يهاب الموت حقا أو باطلا وهذه الأسطورة تتمثل في القسوة الوحشية لهذا النموذج البربري الذي هو خليط من رجل القبيلة الجلف والشقي والمريض والطوباوي حسب إيديولوجيا الثورة والثورة المضادة ومفردات قتل الخصوم جسديا ونفسيا بناء على فكرة ما سياسية حتى وهم في مرحلة النوايا او التخيل كمجزرة قاعة الخلد للرفاق في تموز 1979 وهو تقليد حرفي لليلة السكاكين الطويلة النازية التي تخلص فيها هتلر من رفاقه في ثلاث ليال بالطريقة نفسها بناء على أوهام وتخيلات وهواجس .
هذا الفهم الوحشي للشجاعة، كما تدل صيحات وحالات الذهول بعد القبض على الدكتاتور، ليس فهم الدكتاتور نفسه فحسب الذي عمل على زرعه عبر سنوات، بل هو فهم الجمهور أيضا عن الشجاعة.
بهذا المعنى فإن (القبو) كشف عن طاغية صغير، وكشف عن أوهام ضخمة كبيرة وفي المقدمة منها مفهوم الشجاعة الوحشي.
على هذا الأساس، هل سيكون شجاعا، وبطلا، وشريفا، وقويا، وصلبا، لو أنه قاتل حتى الرصاصة الأخيرة خارج قبوه أو في داخله ومات؟
حسب وعي الجمهور العام، نعم كان سيكون كذلك وسيخلق مثالا في نهاية تليق بفارس أو طاغية شجاع، ولكن من وجهة نظر أخرى فإن هذا الدكتاتور كان سيكون جبانا في كل الأحوال قاتل أو أنتحر أو لم يقاتل أو لم ينتحر.
إن الشجاعة، وهذا مصدر اللبس في الوعي الشرقي والإسلامي والحزبي، ليست في القسوة والوحشية والجنون بل في الرقة والعذوبة والعدالة والشفافية والحساسية وفي اللطف وفي الجمال الروحي وفي الحب وفي الصلاة الصادقة الصافية وفي المغامرة الفكرية وفي حرية المخيلة وفي الابتكار والإبداع وفي الأمل وفي الذوق وفي الحس الدقيق والعميق وفي الصدق والوضوح والأمانة والعاطفة النقية وفي الحس الأخلاقي النظيف وفي الشهامة وفي حيوية الضمير وفي عشق الطبيعة والأسرة والجار والنجوم واحترام حقوق المخلوقات الأخرى في العيش وفي التفكير وفي الأمل وفي الاختلاف وفي أن يكون للإنسان الحق دائما أن يكون كما يريد، أي حقه في حرية التغيير الفردي لا كما يراد له ويسجن في ملف او أرشيف أمني طوال حياته ويمنح رمزا او كودا للحفظ كحاقد او عدو او مشبوه وهو من هذه الناحية لا يختلف عن باقي الاحزاب لان العقل السياسي الرث نفسه أمس واليوم .
الخارج من الحفرة وهم ضخم من أوهام كثيرة هو وهم( الشجاعة) المطلقة الخارقة، أي المعنى البربري الوحشي البدائي للشجاعة مع أن المفهوم الأخير يرتبط عضويا بمفهوم آخر لا يقل عنه قوة وبهاء وهو مفهوم الجمال والرقة والضمير الحي ومن يدفن أطفالاً وأمهات أحياء لا يمكن أن يكون شجاعاً ولو صمد الف مرة أمام المشنقة لان كثيراً من المجرمين الجنائيين صمدوا لحظات الشنق لاسباب لا تتعلق بالشجاعة بل الخوف من الشماتة والحفاظ على الواجهة والصيت والسمعة ومعروف ان الشخصية السيكوباتية قادرة على صناعة سيناريو مختلف في اللحظات الصعبة يؤدي الى ” الثبات الإنفعالي” الارادي عكس التوازن الانفعالي العفوي، بل هناك قتلة كانوا يسخرون من جلاديهم لحظة الشنق او الاعدام وهذا الثبات لا تخلقه عوامل تتعلق بقوة الشخصية او الشجاعة بل تتحكم به عوامل اجتماعية ورغبة في الظهور في غير المظهر الحقيقي .
كنا ننتظر من الدكتاتور أن يمارس( الشجاعة) الأسطورية في القتل، قتل نفسه أو قتل الآخرين، لكنه خيب الأمل وكشف لنا عن مجموعة أوهام كثيفة متشابكة كوكر ثعابين في قبو كانت تعيش في أعماقنا وبدا( لأول مرة) جبانا مستسلما فأرا كأن كل تلك الدماء البريئة لم تكن كافية لوصفه بالجبن الأبدي؟
اكتشف الجمهور، العدو والصديق، اننا وعبر كل هذه السنوات كان يحكمنا الوهم، وهم داخلي مشوه وحشي عن معنى الشجاعة، وهو في الحقيقة مفهوم القوة الوحشية المحاطة بكل مقومات الغطرسة والجريمة وأدوات القتل والتي تتعرى حين تكون مجردة من القوة والحاشية المسلحة. الطاغية ليس قويا بنفسه، بل بالأدوات والاوهام التي صدقناها عن الشجاعة الاجرامية.
كان جبانا قبل السلطة بسبب أوضاع وظروف وعوامل كثيرة يتداخل فيها العائلي والاجتماعي والسياسي والحزبي والقبلي وهذا الجبن المفرط هو الذي كان يدفعه نحو تحقيق حالة البحث المفرط( عن الأمن الشخصي المطلق) عن طريق القوة الغاشمة وكلما أوغل في القتل تعقدت عليه الأزمة الداخلية وشعر أكثر بخطر كامن متوثب.
لذلك حين استسلم في قبوه فإنما استسلم( للعدو) الذي انتظره طويلا وهرب منه طوال حياته طفلا وصبيا ومراهقا وشابا وحاكما وهاربا وهو الخوف المقيم في أعماقه والذي كان القبو الخارجي شكله السهل وكما قال في ممر يؤدي الى منصة الشنق إنه انتظر هذه اللحظة منذ منتصف القرن العشرين وجهز نفسه لها بل تدرب قبل ثلاثة أيام من الشنق على صعود سلم خشبي صغير في السجن مكتوف الايدي لكي لا يسقط كان قد طلبه من الجنرال الامريكي.
كما كان هو على موعد مع وهمه الكبير والحقيقي والذي صار قدرا يطارده ونغص عليه حياته وحياة شعبه، كنا نحن أيضا على موعد مع أوهامنا الكثيرة التي خرجت من القبو كرؤوس ثعابين صغيرة.
واحدة فقط من صور الدكتاتور كانت أدق وأعمق صورة في حياته وهي حين مسك لحيته وغرق في ذهول عميق: تلك هي لحظة مواجهة الحقيقة التي هرب منها طويلا( البحث عن الأمن المطلق) والتي حاول، بالقوة والرعب والكذب والأزمة والعروض الزائفة ، تعميمها على الآخرين حين خلق فيهم وهم الشجاعة الوحشي الذي هو الوجه الداخلي السري للجبن وخلق العكس: الفوضى المطلقة.
هناك عبارة تتكرر على لسان من قابلوا صدام حسين تقول” شخصية كارزمية مهيبة بعيون يقظة كعيون نسر ” وهذا الوصف الغبي يعكس رعب هؤلاء المسبق من هذا المخلوق في حين لم يصف احد مانديلا او جيفارا او كاسترو او عبد الناصر او غاندي بهذا الوصف البوليسي الوحشي الذي هو اهانة للدكتاتور وليس مدحاً.
نحن كشعب نعيش في وباء مزمن اسمه وباء صدام حسين لانه اليوم حاضر في كل التفاصيل والمقارنات ، في نفايات الشوارع، في صفوف المدارس المحطمة، في أعمال السرقة التي كانت من اختصاص صدام وحاشيته، في الغبار الأحمر، في الهواء الملوث، في جرائم القتل، في الازدحام المروري وفي كل التفاصيل ولم يعد صدام حسين شخصاً بل صار منظاراً نرى من خلاله كل شيء لكنه منظار مغبر وشاحب وزعفراني في مجتمع أقرب الى المصح العقلي بل أخطر لكن هذا الوباء والجنون الجماعي لا يظهر على حقيقته لانه يظهر على شكل عقيدة أو وجهة نظر.
أنتج صدام حسين معارضة على صورته وحاربته باساليبه وليس بمشروع بديل وولدت من رحم صراع الوحش كما ولد الصل من الأفعى.









