محمد شهود يكتب :*إدارة ترمب تنشر “استراتيجية الأمن القومي”.. كيف ترى واشنطن العالم وما الذي تريده منه؟! (قراءة 1)

قبل قليل نشر البيت الأبيض استراتيجية الأمن القومي الأميركية وهي الوثيقة الرسمية التي يعلن من خلالها الرئيس وفريقه كيف ترى الولايات المتحدة العالم، وما الذي تعتبره تهديدا مباشرا لأمنها ومصالحها، وما هي أولوياتها في السياسة الخارجية والدفاع والاقتصاد والتكنولوجيا والحدود.
ما الذي ترصده الوثيقة؟
الوثيقة تنطلق من فكرة أن الاستراتيجية يجب أن تكون محددة وواقعية وتُرتب الأولويات، وأن هدف السياسة الخارجية هو حماية المصالح القومية الجوهرية لا إدارة كل قضايا العالم. وتنتقد مرحلة ما بعد الحرب الباردة باعتبارها سعت لهيمنة عالمية مكلفة وغير قابلة للاستدامة، وأضعفت القاعدة الصناعية والطبقة الوسطى وسمحت للحلفاء بتحميل واشنطن كلفة دفاعهم.
وبناء على هيكل الوثيقة وترتيب أولوياتها، هنا أبرز أولويات الولايات المتحدة:
1. الأمن الداخلي والحدود (الهجرة، الكارتيلات، إلخ)
2. نصف الكرة الغربي (استعادة مبدأ مونرو)
3. الأمن الاقتصادي (إعادة التصنيع، سلاسل الإمداد)
4. الصين ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ
ما الذي تريده “من العالم”؟
تحدد الوثيقة خمسة مصالح خارجية “أساسية وحيوية”:
1. نصف الكرة الغربي: كما كان متوقعا، تجعل الوثيقة من منطقة الأميركيتين أولويتها القصوى (عكس الوثيقة السابقة كانت الصين) وتؤكد أن الولايات المتحدة ستعمل على إبقائه مستقرًا وقادرًا على منع الهجرة الجماعية للولايات المتحدة، والتعاون ضد الكارتلات والجريمة العابرة للحدود، وإبعاد أي نفوذ/وجود “معادٍ” أو امتلاك لأصول استراتيجية، وضمان سلاسل إمداد ومواقع استراتيجية.
توضح الوثيقة بشكل صريح أن هذا هو الهدف الأول للولايات المتحدة، مشيرة إلى أن واشنطن ستقوم الآن بـ “فرض وتطبيق ملحق ترمب لمبدأ مونرو.”
2. منطقة الإندو-باسيفيك (الهندي والهادئ): كبح الضرر الاقتصادي القادم من الخارج، وضمان حرية الملاحة وسلاسل الإمداد والمواد الحرجة.
3. أوروبا: دعم الحلفاء لحماية حرية وأمن أوروبا، مع تشديد على استعادة الثقة الحضارية والهوية الغربية.
4. الشرق الأوسط: منع قوة معادية من الهيمنة على المنطقة ومواردها وممراتها، وتجنب “الحروب الأبدية”.
5. التكنولوجيا والمعايير الأميركية: الدفع لأن تقود التكنولوجيا والمعايير الأميركية العالم، خصوصًا في الذكاء الاصطناعي والبيوتكنولوجيا والكمّ.
وفيما يتعلق بالوجود العسكري، تقول الوثيقة إن ذلك يعني:
“إعادة ضبط وجودنا العسكري العالمي للتعامل مع التهديدات العاجلة في نصف كرتنا، والابتعاد عن المسارح التي تراجع تأثيرها النسبي على الأمن القومي الأميركي خلال العقود أو السنوات الأخيرة.”
الصين
يلفت انتباه الخبراء أن الصين لم تعد تُصنف على أنها “التهديد الرئيسي” أو “التحدي الأكثر أهمية” أو “التهديد المُحدد للوتيرة” وهي تعبيرات كانت أساسية في الوثائق السابقة.
وبدلك تُخفض مكانتها الاستراتيجية بوضوح.
في المقابل الوثيقة لا تصف الصين كحليف أو شريك، بل أساسا:
1. منافس اقتصادي
2. مصدر هشاشة في سلاسل الإمداد (وإن كانت أيضاً شريكاً تجارياً)
3. قوة ينبغي—من الناحية المثالية—منعها من تحقيق الهيمنة الإقليمية لأنها تحمل آثاراً كبيرة على الاقتصاد الأميركي.
هنا قراءة من الباحث أرنود برتراند:
لأول مرة، إشارة إلى احتمال تفوق الصين عسكرياً
تذكر الوثيقة أن:
“ردع نزاع بشأن تايوان، ويفضل عبر الحفاظ على التفوق العسكري، هو أولوية.”
كلمة “يفضل” (ideally) تعني بوضوح أن التفوق ليس مضموناً.
كما أن وصف ردع النزاع بأنه مجرد “أولوية” يشير ضمنياً إلى أنه لم يعد مصلحة استراتيجية عليا كما كان يُنظر إليه سابقاً.
وتقول الوثيقة أيضاً إنه إذا لم يقم “حلفاء السلسلة الأولى من الجزر” بزيادة إنفاقهم العسكري والقيام بدور أكبر بكثير في الدفاع المشترك، فقد تكون هناك:
“موازين قوى غير مواتية لنا إلى درجة تجعل الدفاع عن تلك الجزيرة مستحيلاً.”
وتؤكد الوثيقة أن الولايات المتحدة ما زالت:
“لا تدعم أي تغيير أحادي للوضع القائم في مضيق تايوان.”
ثالثاً: غياب كامل للبعد الأيديولوجي تجاه الصين
على عكس الوثائق السابقة، لا توجد أي إشارة إلى:
• “صراع الديمقراطية مقابل الاستبداد”
• “النظام الدولي القائم على القواعد”
• “معركة قيم”
تعامل الوثيقة الصين باعتبارها قضية عملية يجب إدارتها، لا عدواً أيديولوجياً يجب هزيمته.
وفي خطوة غير مسبوقة، تذكر الوثيقة صراحة أن السياسة الأميركية الآن:
• “ليست مبنية على أيديولوجيات سياسية تقليدية”
• وأن واشنطن “تسعى إلى علاقات طيبة وتجارية سلمية مع دول العالم دون فرض تغييرات ديمقراطية أو اجتماعية تتعارض مع تقاليدها وتاريخها”
• وأنها تسعى إلى “علاقات جيدة مع الدول التي تختلف أنظمتها الحاكمة عن نظامنا.
وهو تحول مذهل عن الخطاب الأميركي على مدى العقود الماضية.
لقد أصبح واضحاً الآن أن عصر الليبرالية الدولية التبشيرية في السياسة الأميركية قد انتهى.
يضيف أرنود:
المنافسة مع الصين اقتصادية بالدرجة الأولى
تقول الوثيقة بوضوح إن المنافسة تتمحور حول:
“كسب المستقبل الاقتصادي”
وأن “الاقتصاد هو الرهان النهائي”.
واللافت أنهم يعترفون بأن نهج الرسوم الجمركية الذي بدأ عام 2017 فشل عملياً لأن:
• “الصين تكيفت”
• “وعززت سيطرتها على سلاسل الإمداد.”
والاستراتيجية الجديدة هي بناء تحالف اقتصادي ضد الصين يمتلك قوة ضغط أكبر من قوة الاقتصاد الأميركي وحده — وهو اعتراف ضمني بأن الولايات المتحدة لم تعد قوية بما يكفي وحدها.
التناقض الكبير في الاستراتيجية
هناك تناقض ظاهر:
كيف يمكن بناء تحالف اقتصادي ضد الصين بينما تقوم واشنطن في الوقت نفسه بـ:
• شن حروب تجارية على شركائها
• مطالبتهم بتحمل عبء أكبر في الدفاع
• التعامل مع كل حليف باعتباره صفقة يجب إعادة التفاوض عليها لصالح أميركا؟
في مرحلة ما، سيطرح هؤلاء “الحلفاء” سؤالاً بديهياً:
لماذا نضحي بمصالحنا الاقتصادية من أجل دعم أميركا التي لم تعد قادرة على المنافسة بمفردها
والتي تقدم لنا في المقابل أقل فأقل؟









